من تحمّل مسؤولية تبعاتها، ويبدو أنّ الهروب من مواجهة حقائق الأمور ونظريّة المؤامرة ثقافة متأصّلة في العقل السياسي التونسي إن كان في الحكم أو في المعارضة، الغير، والقوى التي أمسكت بزمام الأمور بعد ثورة2011 لم تشذ عن تلك القاعدة واعتمدت الإنكار لبناء شرعيتها....فلقد أنكرت كلّ شيء لما كان قبلها ولم تعترف له ولو بمنجز وحيد يمكنها البناء عليه ووصمت السلطة التي كانت قبلها « بدولة الفساد»،
ومن سخرية التاريخ أنّ تلك الأطراف بعد عشر سنوات أبعدت من الحكم بنفس تهم الفساد والفشل وأيضا أطلق على مرحلتها ب» عشرية الخراب»، وقد يكون المصير الذي عرفته تلك القوى كان بسبب عدم قراءتها جيّدا للأسباب التي أدّت إلى سقوط نظام الرئيس بن علي وقدّمت بناء منظومتها السياسيّة على الإصلاحات الاجتماعية التي كانت المطلب الرئيسي في ثورة 2011 ، وسقوط تلك المنظومة بات في وقت من الأوقات متوقعا نظرا لضعف التناسق بين مؤسساتها والثغرات التي احتواها دستورها وذلك ما سمح للرئيس من تفكيكها بكلّ سهولة من قراءة معيّنة للفصل الثمانين من ذلك الدستور
وبعد سنة ونصف من إمساك رئيس الدولة بكلّ السلطات لم تخرج البلاد من حالة الغموض والتّردّد التي سيطرت عليها منذ سنة 2011 ، فالمسار السياسي الذي اطلقه الرئيس بعد أن شرّع لنفسه صلاحيات لم يشرّعها لنفسه « قيصر الروّم، قسّم بصفة حادّة الرأي العام بين من يناصر الرئيس وبين من يعترض عليه في ظلّ إصرار كبير من الرئيس على إقصاء كلّ الطبق السياسيّة التي برزت في العشرية الفائتة بيمينها ويسارها ,تغير نظام الدولة من أساسه من جانبه دون الشراكة مع أحد، والغريب أنّ الرئيس لم يقرأ حسابا للأزمة المالية والاقتصادية وتأثيراتها الاجتماعية المحتملة واعتمد في معالجتها بالهجوم على معارضيه واتّهامهم بالاحتكار والتلاعب بقوت الشعب وبالزيارات الميدانية المشهديّة وكان يظن أنّ المرسوم الذي أصدره بخصوص مقاومة الاحتكار وشدّد فيه العقوبات كافيا لردع المحتكرين ووضع حدّ لتلك الظاهرة وحتي بعد استفحال الأزمة واتساع رقعتها لم يتراجع عن موقف الإنكار للأسباب الحقيقية للأزمة والتي تعترف حكومته بجزء، فبالنسبة إليه لا الظروف الدولية ولا الاختلالات الهيكلية في منظومة الإنتاج والتوزيع ولا نقص الموارد المالية للدولة هي أسباب الأزمة، فهو يصرّ إصرارا على أنّ النقص الحاصل في المواد الأساسيّة بالسوق سببه ليس ندرة تلك المواد وأنّها متوفرة بالقدر الكافي لكنّها مخبّأة في مخازن المحتكرين الذين يتأمرون ضدّه في الغرف المظلمة وواصل تهديده ووعيده لهم ولكلّ من يدعمهم ويتستّر عليهم.
الرئيس الحالي هو أكثر رئيس استفاد من الدعم الشعبي على مجرّد حسن النوايا، واكثر واحد سايره ومنحه الفرصة ليحكم كما يريد، لم يكن ذلك انخراطا في مشروع البناء القاعدي أو في بعث جمهورية جديدة أو إيجاد بدائل للديمقراطية التمثيلية لتغيير وجه العالم، لفظ جزء كير من الشعب للمنظومة السابقة كان بسبب عجزها عن تحقيق انتظاراته في التنمية والرفاه الاجتماعي وغرقها في متاهات الصراع الحزبي والإيديولوجي وقبوله التخلّص منها بشكل فيه مجانبة للدستور كان لاقتناعه أنّ أوضاع البلاد لم تعد تحتمل مزيدا من الانتظار، وإذ به يكتشف أنّ الأوضاع تراوح مكانها بل تزداد تعقيدا بارتفاع منسوب اليأس والإحباط لدى الشباب والفئات الهشة التي باتت تلجأ إلى الهجرة السرية لمغادرة البلاد عبر قوارب الموت. بحثا عن فرص حياة أفضل وهذا الوضع مرشّح للتطوّر بشكل دراماتيكي لوجود مؤشرات عن احتمال انهيار قطاعات خدماتيّة وإنتاجيّة إذا لم توجد حلول مستعجلة للأزمة الماليّة.
وتبدو الصورة وكأنّ مشهد ما بعد 14 جانفي يتكرّر في هاته المرحلة حيث غفل الساسة حينها عن ضرورة الشروع في وضع برنامج إصلاح اقتصادي واجتماعي كأولوية مطلقة وانصرفوا في العمل على تثبيت دعائم حكمهم، كذلك فعل الرئيس، ترك المسائل الحارقة جانبا وراح يفكّكك مؤسسات الدولة ويمضي في تنفيذ تصوّراته في بناءه الجديد دون مشاركة لا أصدقاء ولا خصوم وسواء فاجئه حجم الأزمة وتشعّبها أو كان يتوقّعها ويعرف مصدرها فإنّه لا يمكنه التّملّص من تحمّل المسؤولية حتّى لو صحّت الأسباب التي ذكرها، لأنّه في كلّ الحالات يبقى التأخير في علاجها أهمّ سبب في تفاقمها واستفحالها.
والمعضلة أنّه وحتى في حالة تغير المزاج الشعبي إزاء الرئيس وتخليه عن مشروعه السياسي فإنّ الحلول الممكنة تبدو ضيّقة إلى أبعد الحدود، فالحوار الوطني أصبح أمر شبه مستحيل في ظلّ رفض الرئيس لأي شكل من أشكال وقيام جبهة معارضة تتقدّم كبديل ممكن لحكم الرئيس قيس سعيد أمر هو أيضا مستبعد في ظلّ العداء المستحل بين أكبر طرفي معارضة وتباين الشارع عن الجميع وبقاءه يغلي لوحده دون أي تأطير يشكّل أكبر تهديد بانفجار الوضع.
وإذا لم تحصل شبه معجزة لإنقاذ وضعنا بأيدينا فإنّ طرق أيادي الخارج على أبوابنا سوف يقوى في الأيام القادمة.