فرافق زخم الامال التي فتحتها وعايش كل الخيبات التي تلتها من طريقة فرض تجربة التعاضد أواخر الستينات، الى الانحراف الاستبدادي في منظومة الحكم بداية السبعينات، ورفض الاستماع الى الشباب ودفعه الى الراديكالية والسرية والسجون في الستينات والسبعينات، وتفويت فرص الانفتاح السياسي في النصف الأول من الثمانينات، وصولا الى غلق قوس ما بدا ربيعا ديموقراطيا وعودا إلى الجوهر الاستبدادي بعد 1990 .
- ︎أتخيله يقاوم كل ذلك بالانخراط في حلم جماعي، دون أن يتردد لحظة في دفع الثمن من أجله .
- ︎أتخيله يحمل صخرته،يكابد الطريق ليبلغ قمة الجبل، وهي تنفلت منه لتستقر في قلب الهاوية ، فيعتصر من نفسه في كل مرة موارد القوة ليستأنف الصعود، دون ان يصيبه الملل من تكرار المحاولة .
- أتخيله مساء 14جانفي 2011 يتنفس الصعداء، قد تراءى له انه قد بلغ بر الأمان وان التاريخ قد استقر في المرفإ وهو يقرر التخلي عن الشجاعة التي فات اوانها ليكون إنسانا فقط ،تستبدل زي المناضل ببدلة السياسي.
- ثم أتخيله يقاوم الشك الذي بدأ يتسرب اليه في منعرجات العشرية، ويحاول التخلص من مرارة المحطات التي تحل مكان حلاوة البدايات ،و يحاول التخلص من السخرية التي تفتك مكان النشوة .
- وأتخيله يستهزيء من براديغم «التقدم»، ومن مقولة «نهاية التاريخ».
- أتخيله يقف مذهولا بعد جويلية 2021 وهو يعاين انهيار ما بنته الاجيال منذ منتصف القرن التاسع عشر. لكأنما كان البناء مجرد قصر من رمل ذرته الرياح العابثة.
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
- ︎و أتخيله يتأمل نفسه في المرآة ،و يوجه إصبع الإدانة الى الوجه الذي يقابله ،و يسأله بين الغضب والإشفاق أخطر سؤال خطر في ذهنه منذ ولدته أمه :
هل كان سليما ما قدمت لحياتي؟
• سيزيف الشاب :
- ︎أتخيل ايضا شابا انخرط قبل 2011 في معمعة الشان العام، فناله ما ناله ،ولم يتردد في صعود الجبل .
- ︎أتخيل نشوته مساء 14 جانفي ،وهو يتصور طريق التمكين للقيم سالكة، دون اضطرار الى دفع الاثمان التي دفعتها الاجيال السابقة .
- ︎أتخيله سابحا في دفء رفقة التحقت به من الاجيال التي تفتحت أعينها على السياسة مع الاوضاع الجديدة .
- ︎أتخيله متقدا حماسا ،مثل المتدينين الجدد، مقبلا على التنظيمات الحزبية، واثقا ان القطار نحو الحرية و العدالة و التقدم و المساواة انطلق في طريق دون نتوءات و لا تضاريس ،موقتا بالوصول الى جنان كل يلونها بلونه.
- ︎أتخيله متخبطا في «خضخاض» الشكوك وقد أنتبه الى التضاريس والعقبات، بعضها من مستلزمات الطريق، وبعضها نصدرها من تصورهم قديسين من الأساتذة رفاق الطريق .
- ︎أتخيله يصارع نفسه في مفترق يختار بين الانخراط في المعارك القديمة التي ولدت قبله ولا تعنيه، و بين اعتزال «هذه الامم كلها».
- ︎أتخيله يجرب طرقا جديدة في السياسة و في المجتمع المدني ،بَعضها ترهنه في معيشته وتحد من خياراته، وتدخله مناطق ملتبسة .
- اتخيل بعضه يراهن على «سعيد» بعد انقلابه ،فيبادر إلى حمل صخرته فوق كتفيه و يستأنف صعود الجبل .
أتخيل خيبته السريعة وهو يكتشف مذهولا زيف رهانه، فإذا الذي ظنه ماء لم يكن اكثر من سراب بقيعة .
- ︎واتخيل بعضه الاخر قد لم تغره خديعة «تصحيح المسار « فانخرط منذ اليوم الأول في صيغ المقاومة، وربما استسهل الطريق، وراهن على ترنح الانقلاب ليكتشف طول الطريق.
• لا بد من سيزيف وان طال السفر ...
ومع ذلك ،فلا خيار امام هؤلاء و أولئك سوى استئناف السير حتى تستوي الصخرة اعلى الجبل .
وستستوي ...
فمن اكبر اخلالات التحليل سوء تقدير الزمن الضروري لبناء ديموقراطية معقولة.
ندرك جيدا اننا، في هذا المستوى من النص ،نقف في منعرج من شأنه ان يقذف بنا في دائرة التبرير المتكيء على مقولة «طبائع العمران».
ولكننا نعتقد انه بإلامكان التحرر من ذهنية التبرير التي لا ترى بديلا ممكنا عن المسارات التي حصلت، وانه بإلامكان ،أيضا،تجنب هاوية الإحباط.
وإنما يكون ذلك بادراك طبيعة المعركة، وبالاستلهام من دروس التاريخ و عبر التجارب .
فالانتقال من وضع الاستبداد الى الزمن الديموقراطي هو تأنيس للدولة وتحرير لها حتى تكون ملكا لشعبها، بتغيير واجهتها الدستورية و القانونية وبفتح الباب امام توسيع دائرة التنافس على السلطة .
هذا التغيير السطحي هو الجزء الاكثر يسرا في تمرين الانتقال ،اذا ما قورن بتغيير جوهر الدولة بما هي كتلة مصالح مادية ورمزية متغلغلة و عميقة يمكنها تقبل تدوير النخب، والتعامل مع النخب الجديدة اذا «تعقلنت» وتفهمت حقيقة النفوذ، وتحررت من الشعارات، و ندمجت في اللعبة القديمة .
ولكنها لا تتواني في استرداد مفاتيح «دولتها»، او تسليمها الى وكلاء جدد ،اذا عاينت مقاومة او عجزا في المحافظة على الاستقرار .
سيزيف البرازيلي :
تحبس البرازيل انفاسها في انتظار نتائج الانتخابات العامة التي ستنظم في الثاني من اكتوبر القادم، والتي ستجدد القيادة السياسة و المؤسسات على المستوى الفيدرالي و على مستوى الولايات،في سباق يشارك فيه عشرات الالاف من المتنافسين ،رغم ان الانتخابات الرئاسية هي التي تستقطب غالب الاهتمام .
لقد أعلنت الجمهورية في البرازيل سنة 1889،اثر انقلاب عسكري ،وتداولت على قيادتها الأنظمة «الديموقراطية «و الأنظمة الدكتاتورية (1930 - 1934) ثم 1937 - 1945 )،قبل أن تسقط تجت نير الدكتاتورية العسكرية (1964 - 1985)وهي الفترة التي رزحت فيها أمريكا اللاتينية تحت هيمنة العساكر.
ومنذ اواسط الثمانينات دخلت البلاد -والمنطقة -مرحلة انتقال ديموقراطي حيث تعد من اهم المختبرات التي تكشف معضلاته والتي تقدم عبرا للمعتبرين ،رغم ان موقعها في خارطة الرهانات الدولية اقل تعقيدا من موقع منطقتنا ،ورغم ان بعض دولها يمتلك مقومات استقلال حقيقي .
بعد حوالي 40 سنة من الانتقال المتعرج تضع الانتخابات القريبة في البرازيل مجمل المسار الديموقراطي على المحك، حيث يتواجه الرئيس الشعبوي اليميني الحالي «بلزنارو» مع المرشح «لولا داسيلفا» .
الطريف في الامر، او لعله من مكر التاريخ، ان» لولا داسيلفا» النقابي اليساري كان يعتبر «شعبويا» لما انتخب سنة 2002 و سنة 2006 ،أما الان فهو اقرب الى ان يكون مرشحا جمهوريا توافقيا ،فدفع برنامجه باتجاه الوسط واليمين ،لاغراء دوائر النفوذ المالي الباحثة عن العقلانية و الاستقرار والخائفة من شطحات الشعبوية .
وبعد 40سنة لا تزال المؤسسة العسكرية تحتل موقعا رئيسيا في الحياة السياسية و الاقتصادية في البرازيل ،ولذلك يتسابق المرشحان الأبرز على ترضيتها .فلقد اسند «بلزنارو» مواقع أساسية في حكومته الى عسكريين ،وشغل اكثر من 6000 عسكري في مواقع إدارية .
ومن جانبه يسعى «لولا» الى إبرام توافقات مع أوساط راس المال و الاحزاب «اليمينية»، والى ترضية المؤسسة العسكرية نفسها .
و قد ذكر مراسل جريدة لوموند(عدد 17 اوت 2022) ان «لولا» كلّف ثلاثة ضباط سامين مقربين منه، شغلوا منصب وزارة الدفاع، للتفاوض مع المؤسسة العسكرية .
وحسب احد الأعضاء النشطين في حملة « لولا» ،»فان موضوع التفاوض هو تمتيع المؤسسة العسكرية بمواقع هامة في القطاعات الاستراتيجية ،مثل الطاقة والدفاع والاتصالات ...»
و في حين تتقدم المفاوضات في هذه المحاور فإنها تتعثر حول هوية وزير الدفاع المقبل اذ تعهد «لولا» ان يسلمه إلى شخصية مدنية ،و الأقرب ان يحصل التوافق على شخصية من المؤسسة الامنية .
بعد أربعين سنة ،وبعيدا عن سحر كرة القدم ومهرجان ريو ديجانيرو وابطال الفورميلا 1،و بعيدا عن الإبداع الروائي المذهل ،لا يزال سيزيف البرازيلي يحمل صخرته على ظهره ولم يصل بعد الى سطح الجبل ،بل من غير المستبعد ان تتدحرج الصخرة وتفرض عليه محاولة جديدة ،ولا تزال القوى الديموقراطية تصارع مراكز القوى الحاكمة :الجيش والإدارة و راس المال والكنيسة بتياراتها التحررية و المحافظة و منظومة العلاقات الدولية.
• قدر الديموقراطيين هو المكابدة .
وسيزيف اللاتيني والشرق أوروبي والأفريقي والآسيوي، يساهم كل منهم بطريقته، في تنبيه سيزيف العربي إلى المصاعب التي ستعترضه، ويبث فيه الامل ان الصخرة ستستقر، في النهاية، على قمة الجبل ،في احتفال شبيه باحتفالات الرواد الذين بلغوا اقصى نقطة في القطبين الشمالي والجنوبي .