من طلوع الصباح إلى أعقاب الليل، فإنّ هذا الصيف مختلف ولا يشبه المواسم الصيفية السابقة كثيرا، فعادة ما يكون هذا الفصل فصل الراحة والارتخاء وينصرف فيه الناس إلى الشواطئ والمهرجانات والأعراس ويعلقون انشغالهم بالسياسة وبـ«الكورة» وهموم الحياة إلى ما بعد انقضائه، لكن هذه السنة لم يحصلوا على الهدنة التي تعودوا الحصول عليها مع بداية ارتفاع درجات الحرارة، فأمام تسارع تطورات الأوضاع السياسية بالبلاد وجدوا أنفسهم مضطرين لمتابعتها، خاصة أنّهم مدعوون للمصادقة على الدستور الجديد عبر استفتاء 25 جويلية، وبالفعل انتقل عدد هام من المواطنين تحت شمس حارقة للإدلاء بأصواتهم آملين أن يضع ذلك حدّا لحالة التجاذب الشديد التي باتت تسود المجتمع، لكن طريقة تنظيم الاستفتاء وما شابه من طعون وشكوك عند الإعلان عن النتائج زاد في توسيع دائرة الجدل الدائر في البلاد وفي تعميق الشرخ بين المواطنين وذلك ما يؤشر إلى أن حرارة المواجهة السياسية سترتفع أكثر بصدور مرسوم القانون الانتخابي المنتظر أن يكون في موفى شهر أوت، ومن المتوقع أن يزيد هذا القانون في حدة التجاذب ولن يخرج عن سياق الدستور والاستفتاء، لكن ليس ذلك فقط ما يشغل بال المواطن ويزعجه في هذا الصيف، فالارتفاع الجنوني للأسعار الذي لم يشهد له مثيل حتى في سنوات ما تسمى «عشرية الخراب» تجعل المواطن يعيش حالة من القلق والحيرة جراء التدهور المتواصل لمقدرته الشرائية، ويبدو أنّ ليس هنالك ما يشير إلى توقف نزيف الأسعار في ظل صمت الحكومة التي تتصرف
وكانّ الأمر لا يعنيها، حتى منظمة الدفاع عن المستهلك التي كانت في مناسبات سابقة تملأ الدنيا احتجاجا، لا يُسمع لها صوت منذ مدة، وحتى وعود الرئيس في محاربة الغلاء توقفت عند حملة مخازن البطاطا وبعض الزيارات وانكب كلّ اهتمامه على المسائل السياسية، والذي ينغص على المواطن صيفه هذا أكثر، هي الشائعات التي تبشره بزيادات كبيرة مرتقبة إذا حدثت سوف لن يبلغ مواعيد الخريف إلاّ وهو على «الحديدة» كما يقول زياد رحباني.
حوادث أخرى مدمرة لوّنت أياما من هذا الصيف باللهب والدخان، لقد أتت الحرائق على عشرات الهكتارات من الأشجار ، لقد تعود التونسي منذ بضع سنوات على مثل هذه الحوادث، وتعوّد على سماع نفس التفسير وهو أنّ هناك أياد إجرامية مدفوعة من جهات سياسيّة تقوم بذلك الفعل الشنيع ومع كلّ حادث تخرج حكاية عن القبض عن متلبسين سيقع إحالتهم على القضاء ومحاكمتهم ثمّ تختفى الحكاية ولا يظهر متهمون و محاكمات ليتكرر نفس السيناريو مع الحادث الموالي، حرائق هذه السنة كانت اكثر مرارة وأشد وقعا على نفوس التونسيين لأنّها مست أكبر وأجمل المناطق الغابية بالبلاد بوقرنين وجبل برقو، لقد كادت النيران أن تقضي على كامل الغابة ببوقرنين فلم تكف بسالة رجال المطافئ التونسيين مما استوجب الاستنجاد بوسائل الإطفاء من الجزائر وليبيا لمنع الكارثة، وفي برقو تدخلت الطبيعة بشكل مفاجئ لوقف الحريق بتهاطل الأمطار بعد أن عجزت قدرة البشر على إيقافه.
وكان من المفروض أنّ عودة المهرجانات الصيفية بعد انقطاع دام لأكثر من سنتين ستساهم في امتصاص حالة الاحتقان التي تسود البلاد وتنزع عن المواطن شيئا من حالة القلق والحيرة التي تسيطر عليه جراء الضغوط التي عاشها في الفترة الأخيرة، لكن سرعان ما انزلقت الساحة الفنّية والإعلامية في معارك طاحنة اختلط فيها الفنّي بالسياسي بالعقائدي مع الشخصي، كانت البداية مع نجم الكوميديا الفنان لمين النهدي حيث انسحب جزء من الجمهور أثناء عرضه لمسرحيته «نموت عليك» بالمسرح الروماني بقرطاج وكان يمكن أن يمر ذلك كأي خبر عادي لولا تدخل الكثير من الصفحات والأطراف وتحويل ذلك إلى قضية رأي عام، الأمر لم يتوقّف عند ذلك الحد وجاء قرار إدارة المهرجان الدولي بالمنستير بإلغاء عرض مسرحي للفنان المقداد السهيلي عقابا له على ما اعتبرته الإدارة المذكورة إساءته للزعيم الحبيب بورقيبة في تصريح له بإحدى القنوات التلفزية، وفجر عرض للطفي العبدلي أزمة مدوية بمحاولة الأمن إيقاف العرض لما رأى فيه من مس من الأخلاق العامة.
قليلة هي العروض المسرحية خاصة التي لم تحدث حولها إشكاليات وهذا يكشف عن أن الثقافة تعيش هي الأخرى أزمة عميقة ويطرح أكثر من سؤال حول من يفكر ومن يخطط ومن ينظم ومن يؤطر وهل يقتصر دور وزارة الثقافة على التمويل فقط وترك الانتصاب الفوضوي ليغزو الساحة الثقافية أو فسح المجال لكل من هب ودب للتدخل في المضامين وفرض قانونه على الساحة الفنية؟ نعرف أنّنا بعيدون كلّ البعد عن سنوات الازدهار المسرحي في السبعينات وعن تلك المدارس المسرحية الكبرى، فرقة الكاف وقفصة والمغرب العربي والمسرح الجديد ومسرحيات «الكريطة» و«عمار بوزور» و«غسالة النوادر» و«عرب» و«قف للمعلم» وغيرها من الروائع التي تجاوزت شهرتها حدود البلاد التونسية، ليس المطلوب إعادة الرقابة على الإنتاج الفني أو الحد من حرية الإبداع لكن المطلوب ضمان الحد الأدنى من الجودة وحماية الجمهور من الغش الثقافي.
العروض الموسيقية لم تخرج عن العادة، إذ لم تحدث الكثير من المشاكل سوى تكرر نفس الاحتجاج من فناين تونسيين على برمجة إدارة مهرجان قرطاج التي يتهمونها بتفضيل نجوم عربية خفت بريقها وأصوات مغمورة على الفنانين التونسيين وقد لخص أحدهم تلك المشكلة بالقول «إن إدارة المهرجان بصدد تحويله إلى برنامج the Voices لمنح الفرصة للفنانين الناشئين من الدول العربة على حساب الفنانين التونسيين.
ويأبى مسلسل هذا الصيف أن يتوقف عند حدود هذه القضايا دون أن رغبات هواة فضائح المخادع والعلاقات الحميمية ولذلك فتح على قضية قد تكمل ما تبقّى منه.