أن عدم التصويت المكثف بـ«نعم» للدستور الجديد يعني عودة حركة النهضة للحكم وتسمية رئيسها راشد الغنوشي، رئيس البرلمان المنحلّ رئيسا للبلاد. وبناء على هذه المقدمة/المصادرة يكون الاستنتاج المنطقي أن التصويت المكثف ضروري بقطع النظر عن محتوى الدستور الذي يلمح البعض وحتى يصرّح أن «فيه مشاكل» وأنه يمأسس الحكم الفردي (الذي لا يخجل البعض من الدفاع عنه والمطالبة به علنا)، ويذهب بعض أصدقائنا حتى إلى القول « نمرر دستور 25 جويلية ونطوي صفحة حركة النهضة، ثم نعدله ونطوره (أي الدستور)». فيما يركز بعض المساندين لسعيد ودستوره على بناء موقفهم على كون معارضة الخوانجية والدساترة له هي دليل صحته وحتى تقدميته.
• هل أن فشل الاستفتاء يعني عودة النهضة؟
يتجه البعض بحسن نية إلى المشاركة في الاستفتاء بالتصويت الايجابي لا اقتناعا بالدستور الجديد، بل نكاية في حركة النهضة، ويتأسس على هذا القرار حجة أن فشل الاستفتاء سواء من جهة ضعف الإقبال أو من جهة ضعف التصويت بنعم يعني آليا عودة النهضة للحكم. إن هذا الكلام لا سند له وهو أقرب إلى اللغو البروباغندي، فليس ثمة في القوانين المعتمدة اليوم في تسيير دواليب الدولة ما يذهب هذا الاتجاه، فالعمل بالدستور هو رسميا معطل والدستور هو الوثيقة الوحيدة التي تنص على أنه في حال فراغ منصب رئيس الدولة يتولى رئيس البرلمان الحكم لمدة معلومة إلى حدود إجراء انتخابات سابقة لأوانها. وتسيير السلط العمومية يحتكم اليوم للمرسوم 117 الذي نصص على أنه في حال فراغ منصب الرئيس يتولى رئيس الحكومة موقعه إلى حين إجراء انتخابات مبكرة في ظرف معلوم. هذا من الناحية الشكلية/القانونية البحتة، علما وأن سعيد تعمد في مسودة دستوره الجديد عدم التنصيص على العتبة سواء فيما يهم حجم المشاركة من مجمل الجسم الانتخابي، أو حجم «نعم» من مجمل حجم التصويت، والفصل 139 الشهير يترك الباب مواربا لمرور الدستور دون أي شرط مهما كان جزئيا وبسيطا، فسعيد أعلم الناس بكون نسبة المشاركة ستكون ضعيفة مثلها مثل المشاركة في الاستشارة/المهزلة . أما من ناحية مواقف القوى السياسية الداعية للمقاطعة أو المشاركة السلبية، فان مقاربتها للمسألة مختلفة ومتناقضة، والى حدود علمنا فان «جبهة الخلاص» المتكونة من حركة النهضة وحلفائها، فقط تطالب ب»العودة للشرعية» أي إلى وضع ما قبل 25 جويلية، لكنها لم تصدر ما يفيد أنها تريد سقوط قيس سعيد، بل هي تريد الحوار معه أي إقامة تسوية/صفقة لترتيب أمور الحكم عاجلا وآجلا.
أما القوى التقدمية فنظرتها للوضع لا تقوم على منطق «عودة الشرعية» أي العودة لما قبل 25 جويلية الذي يريده الإخوان وحلفائهم ، ولا لوضع ما قبل 14 جانفي الذي يحن إليه الدساترة، وأيضا لا للأمر الواقع الذي تم فرضه يوم 25 جويلية 2021. إن أزمة تونس ليست قانونية/دستورية، بل هي أزمة سياسية عميقة ترتبط بفشل منظومة الحكم التي تربعت بعد 14 جانفي والتي واصلت نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومنظومة الحكومة لا تضم فقط حركة النهضة رغم كونها كانت دائما الطرف الأساسي فيها، بل تضم كل القوى التي حكمت معها أو ساندتها أو تواطأت معها . والأزمة السياسية حلها يكون ضرورة حلا سياسيا يراه البعض من داخل المنظومة السائدة، ونراه نحن من خارجها وعلى أنقاضها وفي خضم النضال ضدها. إن تونس في هذه اللحظة ليست في حاجة إلى دستور جديد، بل في حاجة إلى خيارات جديدة، خيارات وطنية شعبية ديمقراطية. ودستور سعيد لا ينصص على خيارات جديدة، بل ينصص أساسا على صلاحيات أكبر لرئيس الدولة، سعيد يحسم صراعه مع شق المنظومة الذي أوصله للحكم بافتكاك كل الصلاحيات وتحويل بقية أجهزة الحكم إلى وظائف تحت إمرته. هذا جوهر الدستور الجديد الذي يريد طي صفحة 24 جويلية بالعودة إلى صفحة 13 جانفي، أي صفحة النظام الرئاسوي والحكم الفردي المطلق، لكنه حكم فردي مطلق يتحرر من الغطاء الحداثوي الذي تدثر به بن علي وقبله بورقيبة. ان استبداد سعيد يريد التدثر بالغطاء الديني المحافظ، ونحن لا نعتقد أن عاقلا واحدا يجهل التبعات المدمرة لامتزاج الحكم بالدين. ومن هذه الزاوية فان حركة النهضة لا يقابلها تناقض مطلق مع دستور سعيد، بل هو يعبر عن جوهر أفكارها التي صاغتها في مشروع الدستور الظلامي المنشور في 1 جوان 2013. إن مشكل حركة النهضة مع سعيد اليوم هو مشكل الاستيلاء على الكرسي وإزاحتها من الاشتراك فيه، أما من الناحية الإيديولوجية فان دستور سعيد هو دستور الحركات الإسلامية والظلامية، لذلك ساندته عديد الأوساط ذات الصلة بهذه الحركات، بل أن حركة النهضة ذاتها لم تعلق مطلقا على الفصل الخامس الذي ينصص على مقاصد الشريعة.
إن قناعتنا عميقة أن أنصار حركة النهضة سيكونون يوم الاستفتاء ممزقون بين مقاطعة من افتك منهم الحكم وهو ما دعوا رسميا إليه، وبين الخوف من تفويت فرصة تمرير دستور عجزوا عنه بعد سنة 2013 وفرض عليهم دستور 27جانفي 2014 ذي النزعة التحررية الحداثية . إن «النهضويين» سيعيشون يوم الاستفتاء تناقضا بين مطلب إسقاط الدستور الجديد، وبين رجاء فوزه ومروره. إن دستورا بتلك المضامين سيكون صالحا جدا لو تمكنت حركة النهضة من وصول قصر قرطاج عبر أحد مرشحيها أو مقربيها.
كما أن القول بأن مرور الدستور سيغلق نهائيا صفحة حركة النهضة وعشرية حكمها هو من قبيل لا الضحك على الذقون فقط، بل وأيضا زرع الوهم ونشر الدروشة الفكرية والسياسية ويذكرنا بما أشيع بعد الحرب العالمية الثانية أن التنصيص على تجريم النازية والعنصرية في دساتير ألمانيا وايطاليا سيقضي على هذه الأفكار نهائيا، فالسذج فقط صدقوا هذا الكلام رغم أهمية ذلك التجريم الذي كان مطلبا شعبيا عارما. وفي حالتنا فان دستور سعيد لم يغلق الباب أمام الظلامية ولم يجرمها، بل أن العكس هو الصحيح، فالدستور ذو مسحة دينية محافظة قريبة من فكر الإخوان المسلمين بالقدر الذي يعبر عن أفكار قيس سعيد الذي ظل يروجها منذ سنوات (دفاعه عن الاحتكام للشريعة، رفضه للمساواة بين الجنسين، دفاعه عن عقوبة الإعدام، رفضه لعديد الحريات الفردية...). إضافة إلى كون الدستور (أي دستور) كجزء من البنية الفوقية لا يلغي ما يوجد في الواقع، بل أن تأثيره في الواقع يجب أن يتزامن مع إجراءات مادية ملموسة تهدف إلى تكريس مضامين ذلك القانون والدستور، بلغة أخرى فان القضاء أو إضعاف الأفكار الظلامية لا يتم بمجرد التنصيص على ذلك في الدستور (وهو ما لم يتم في حالتنا)، فتحقيق ذلك الهدف يتطلب إجراءات اقتصادية/اجتماعية/ثقافية لضرب عوامل انتشار الفكر الظلامي مثل الفقر والحرمان والتفاوت الطبقي والأمية والاستلاب الثقافي والحضاري...، وهذا يتطلب لا فقط التنصيص على خيارات جديدة في الدستور بل أيضا وأساسا التخلي عن الخيارات السائدة لصالح خيارات جديدة. إن الحفاظ على نفس التوجهات السائدة لا منذ 2011 بل منذ تربع دولة حزب الدستور على تونس لا يمكن أن يحقق نتائج غير التي تحققت وتتحقق منذ عقود وهي نتائج تتحوصل في هيمنة التبعية والاستغلال والفساد، وهذا الثالوث هو بصدد تعزيز مظاهر الاغتراب الاجتماعي والفكري الذي تعتبر التوجهات الظلامية أحد أبرز تجلياته. لذلك ينحو أنصار الدستور الممنوح إلى عدم التعرض لمضامين هذا المشروع، بل أن البعض ظهر في وسائل الإعلام للدفاع عنه وهو لم يطلع عليه أصلا. إن المغالطة الكبرى تتجلى في تمرير الاستفتاء على سعيد تحت عنوان الاستفتاء على دستوره.
• لماذا يتورط بعض التقدميين في مساندة دستور استبدادي ظلامي؟
من بين القوى المساندة بقوة للدستور الممنوح قوى تقدمية كان بعضها في الجبهة الشعبية التي نازلت منظومة ما بعد 14 جانفي، وهذه القوى تقريبا هي الطرف الوحيد المساند لسعيد إضافة إلى المجموعات المسماة «أنصار سعيد» والتي تحول البعض منها اليوم إلى مليشيات للسحل الالكتروني والعنف المادي (اعتداءات سوسة يوم 25 جوان الجاري، الاعتداء على حزب آفاق في الرقاب و المنستير..). إننا لا نجد أي مسوّغ جدّي لمساندة حلفاء الأمس لسعيد ومشروع دستوره وهو الذي لا زال يحافظ على نفس الخيارات والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن صياغته لدستور انفرادي ذي مضامين يمينية محافظة، وأن حكومته بصدد عقد اتفاق جديد مع صندوق النقد بنفس الآليات والمضامين التي مارستها الحكومات المتعاقبة، إضافة إلى تنامي كل مظاهر التطبيع مع العدو الصهيوني منذ 25 جويلية الجاري والذي أصبح علنيا ومكشوفا مثل حضور وزير الدفاع التونسي لاجتماع حلف الناتو بمشاركة وزير الحرب الصهيوني وتنظيم رحلات جوية مباشرة من تل أبيب إلى جربة ومواصلة التهرب من إصدار قانون لتجريم التطبيع مع العدو الصهيوني وتقديم صياغة مبهمة في توطئة مشروعه الجديد تنصص على الاحتكام للشرعية الدولية التي يعرف القاصي والداني وخاصة جمهور اليساريين أنها شرعية السيطرة الامبريالية التي تحكم العالم.
لقد سقط البعض من أصدقائنا في الكثير من المغالاة وإلغاء المسافة النقدية المستوجبة في المنعرجات الدقيقة، وتناسى البعض السياقين المحلي والإقليمي والدولي الذي يتحرك فيه وضمنه قيس سعيد، فيما نحى البعض إلى توجيه مجمل دعايته ضدّ القوى التقدمية والثورية التي أخذت الموقف السليم وهو مقاطعة المهزلة . ومن بين الحجج المعتمدة هو أن المقاطعة ( وحتى المشاركة ب:لا) تصب في خانة النهضة وحلفائها و»منظومة ما قبل 25 جويلية». فطالما أن النهضة والدستوري رفضا الدستور، فهذا دليل على سلامته (أي الدستور). إن هذا المنطق لا علاقة له بالتفكير السياسي السليم بل هو ضرب من الميكانيكية الساذجة التي لا تقنع إلا محدودي النظر، وان صياغة قاعدة «عدو صديقي عدوي» هي صياغة طفيلية وغير ذات معنى ولا علاقة لها بالفكر الجدلي والمواقف التقدمية، وإذا اعتمدنا هذا المنطق فسنسقط في قياس أن عداء حركة حماس كحركة رجعية في فكرها للكيان الصهيوني يجب أن يؤسس منطقيا إلى ما تعاديه هذه الحركة الرجعية هو تقدمي، إن هذا المنطق الصوري/الشكلاني سيؤدي بنا إلى استنتاجات موغلة في البؤس. إن حركة النهضة التي تتصارع اليوم مع قيس سعيد هي ذاتها التي كانت تتصارع مع بن علي (بعد فترة مهادنة في الحالتين)، فمساندة سعيد يتأسس عليها قياس أن الموقف السليم هو مساندة بن علي. ولا غرابة في الأمر فكثير من مناصري سعيد كانوا من مناصري بن علي أو من المتواطئين معه طيلة فترة حكمه.
ان المقاربة السليمة للمواقف السياسية تتأسس على خلفية الموقف وسياقه وأهدافه. إن حركة النهضة والحزب الدستوري يتصارعان اليوم مع سعيد ليس من موقع رفض خياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية اللاوطنية واللاشعبية، بل من موقع الدفاع عن التموقع والصلاحيات والأدوار اليوم وغدا (الحزب الدستوري عينه مركزة على القانون الانتخابي وانتخابات 17 ديسمبر التي يريد الفوز فيها لذلك يضغط من أجل قانون يمكنه من ذلك). أما القوى التقدمية فتصارع سعيد على خلفية الخيارات المتبعة ومصالح الجماهير الشعبية التي تتناقض اليوم مع الشعبوية بالقدر الذي تتناقض فيه مع الظلامية و الدساترة سليلي الدكتاتورية.
بقلم: علي الجلولي