1 - إن السؤال الأول الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد هو التالي: على ماذا سيصوت أنصار قيس سعيد بـ»نعم» يوم 25 جويلية القادم؟ هل اطلعوا على ما في الدستور من مضامين؟ وهذا السؤال يطرح على «المسيسين» و»المثقفين» الذين يقومون بالحملة أكثر مما يطرح على الناس العاديين الذين لم يطلعوا على الدستور ولم تتح لهم مطلقا فرصة مناقشته وهم يتعاملون مع 25 جويلية على أنه مبايعة شخص، لا استفتاء على دستور الخ... قلنا إذن على ماذا سيصوت هؤلاء «المسيسون» و»المثقفون»؟ وهل أن لهم الجرأة والشجاعة المعنوية لقول الحقيقة أمام الناس؟
لقد كتبت أستاذة القانون الدستوري منى كريم الدريدي قبل أيام تدوينة في صفحتها في الشبكة الاجتماعية للرد على السؤال المطروح: «نعم» على ماذا؟ وقد جاء في هذه التدوينة المؤسسة على قراءة نقدية ومعمقة لمشروع الدستور ما يلي:
«نعم للحكم الفردي الشعبوي،نعم لنظام رئاسوي، نعم لمواصلة الإتجار بالدين، نعم لإلغاء مدنية الدولة من الدستور، نعم للاهتمام بالدستور وتجاهل مشاكل الناس الحقيقية، نعم لاستفتاء تشرف عليه هيئة منصبة، نعم للتصويت على نص غير موجود إلا مسودة كلّها أخطاء وملحق تعديلات، نعم للمواصلة في خيارات الإخوان والتعيين بالولاءات، نعم للتمييز بين التونسيات والتونسيين، نعم لسلطة قضائية خاضعة للرئيس، نعم لسلطة تشريعية فاقدة لكل الصلاحيات ومشتتة، نعم لعدم مساءلة ومحاسبة الرئيس، نعم للدستور قبل صدوره وبعد صدوره، نعم قبل تعديله وبعد تعديله...نعم في كل الحالات لوضعية الحاكم الواحد والرعية... الرعية تصوت «نعم» يوم 25 جويلية على إقصائها وتفويض كامل إرادتها للفرد الأوحد.
فهل نحتاج لأكثر من هذا لنصوت نعم؟»
هذا ما كتبته أستاذة القانون الدستوري. وبإمكاننا إضافة جملة أخرى من عندنا وهي:
- «نعم لتحويل السلطات إلى وظائف وعدم الفصل وإحداث التوازن بينها عبر آلية المراقبة المتبادلة وجعلها كلها بين يدي «الموظف الأعظم»، رئيس الدولة».
وإذا أردنا حوصلة الكل في الكل فهو: «نعم لحاكم فردي، مطلق، يجمع بين يديه كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والتأسيسية والروحية باعتباره هو «الدولة» و»الدولة» هو، وهوما يخول له تحديد «مقاصد الإسلام» وهو ما سنعود إليه لاحقا. فهل ثمة خصائص للدكتاتورية أكثر وأشمل من هذه الخصائص؟ لا أعتقد ذلك. ومع ذلك يوجد «سياسيون» ومثقفون» و»جمعياتيون» يصفقون للدستور الجديد ويهللون به ويعتبرونه «إنجازا عظيما» بل «الطريقة المثلى نحو الديمقراطية». وفي رأيي لا يمكن لعاقل أن يصدق هذا السلوك إلا بوصفه إمّا سلوكا انتهازيا، خلفيته البحث عن التموقع، أو بوصفه انعطافا واضحا وواعيا نحو الفاشية. وهو أمر وارد في وقت الأزمات. ألم يكن موسيليني اشتراكيا؟ وهتلر ألم يكن يعرف نفسه بأنه «قومي اجتماعي»؟
إن ما ورد في مشروع دستور قيس سعيد لا لبس فيه. إن الأساس فيه هو النظام السياسي، وما عدا ذلك من حديث عن الحريات والحقوق فهو بهارات للغش لا أكثر ولا أقل. فللحريات والحقوق ضماناتها وليست مجرد عناوين تذكر. وحتى هذه العناوين لم تسلم من التلغيم في مشروع دستور قيس سعيد. فبالإضافة إلى ما يسمح له به تجميع كل السلطات بين يديه من تحكّم في تفاصيل الحياة العامة وتطويعها لرغائبه، فقد سيّج، احتياطا، الحريات والحقوق المنصوص عليها بعبارات من قبيل «حسب ما يضبطه» أو «ينظمه القانون» وهو تكرار لما جاء في دستور 1959 ليرتكز عليه بورقيبة في ضرب الحريات والحقوق، لكن ذلك لم يمنع القوى الحية في المجتمع من التمرّد على بورقيبة وعلى قوانينه القامعة للحريات. ولا نخال هذه القوى ستخضع اليوم لإرادة قيس سعيد وتمنع نفسها من التمرد عليه وعلى أي قانون قمعي سيضعه.
إن الصادق بلعيد، الذي كلّفه قيس سعيد، برئاسة «اللجنة الوطنية الاستشارية لإعداد دستور الجمهورية الجديدة» لم يكفّ عن تنبيه كل من بقيت فيه ذرة نزاهة إلى خطورة ما فعله قيس سعيد. وبالطبع فالصادق بلعيد لا يتكلم من فراغ وإنما من موقع المخدوع الأول الذي تلاعب قيس سعيد بـ»حسن نواياه»، مستغلا أيضا رغبة ربما تسكنه في تخليد اسمه، كمحرر رئيسي للدستور الجديد. لقد أخذ منه سعيد النسخة وألقى بها في سلة المهملات وأخرج من جيبه نسخته التي أعدّها بنفسه.
ففي الرسالة التي نشرها الصادق بلعيد بجريدة الصباح بتاريخ الأحد 3 جويلية 2022 اعتبر أن النص «الصادر عن رئاسة الجمهورية ينطوي على مخاطر ومطبات جسيمة من مسؤوليتي التنديد بها». ومن بين «المطبات» الجسيمة التي أشار إليها رجوع قيس سعيد «المريب إلى الفصل 80 من دستور 2014 حول «الخطر الداهم» يضمن من خلاله رئيس الدولة صلاحيات واسعة في ظروف يقررها بمفرده ما من شأنه التمهيد لنظام دكتاتوري مشين». وفي تصريح لجريدة لوموند بتاريخ 3 جويلية 2022 لم يتردد الصادق بلعيد عن وصف مشروع دستور قيس سعيد بـ»الخطير». وأخيرا وفي تصريح لإذاعة «ديوان أف أم» بتاريخ 13 جويلية 2022: «اعتبر العميد الصادق بلعيد... أن نص مشروع الدستور الذي كتبه رئيس الجمهورية بعيد بعد السماء عن الأرض عن النص الذي كتبه هو رغم ما أجراه سعيد من تعديلات وفق تعبيره. وأضاف بلعيد أن التعديلات التي قام بها رئيس الجمهورية في النسخة الثانية من مشروع الدستور ليست جديدة عن النسخة الأولى...واستغرب في السياق ذاته من تصريح رئيس الجمهورية عندما قال إن هناك أخطاء طباعة وردت في النسخة الأولى قائلا: «حاجة محزنة تستبله في التوانسة إلى هذا الحد...ما عادش فيها ما يتعالج...» (13 جويلية2022)
هذا حكم الصادق بلعيد على سلوك تلميذه قيس سعيد الذي كلّفه بإعداد دستور «الجمهورية الجديدة» أو بالأحرى «الدكتاتورية الجديدة». وإذا كان هذا حكم بلعيد نفسه فهل سيكون حكم بقية أساتذة القانون الدستوري الذين رفضوا التورط في العملية، غير الإدانة الصريحة والواضحة. وخلاصة القول إن الذين سيصوتون بـ»نعم» يوم 25 جويلية إنما سيصوتون بنعم للحكم الفردي المطلق، للاستبداد والدكتاتورية. وهم لن يقنعوا أحدا مهما كانت الذرائع التي سيختلقونها، بأنهم قاموا بذلك عن جهل «بخفايا الأمور» وليس بانتهازية أو حسابات خاطئة. إن ما يعجبك في التاريخ أنه يمهل ولا يهمل. وليس ثمة أخطر من وصمة عار تبقى تلاحق المرء طوال حياته.
2 - أما السؤال الثاني، فيتعلق رأسا بالذريعة الرئيسية والأبرز التي يبرر بها دعاة «النعم» في استفتاء 25 جويلية سلوكهم، وهو: هل صحيحا أن قيس سعيد أنقذ حقا تونس وشعبها من حركة النهضة؟ وهل أن عدم التصويت بنعم في الاستفتاء سيعيدها من جديد إلى الحكم (الغنوشي رئيسا) لتنتقم أو تثأر من «الشعب» الذي ساند قيس سعيد في إسقاطها؟ للجواب على هذين السؤالين يمكن القول إننا أمام كذبتين عاريتين، وهما يستعملان، خاصة الكذبة الثانية للتخويف والترعيب (نظرية البعبع) وهو تكتيك ليس جديدا. فبالنسبة إلى كون قيس سعيد أنقذ تونس من حركة النهضة فهذا لا صحة له وإنما العكس هو الصحيح فسعيد هو الذي أنقذها وأنقذ المنظومة بأكملها من احتمال انتفاضة شعبية عارمة جرّاء الأزمة التي وصلتها البلاد في خضم وباء الكورونا. ثم بعد ذلك ماذا فعل قيس سعيد لحركة النهضة منذ حوالي العام من انقلابه؟ هل فتح الملفات الكبرى لعشرية ما بعد الثورة؟ بالطبع لا. إن كل ما فعل هو أنه ظلّ يستعمل حركة النهضة بعبعا لإخافة التونسيات والتونسيين بعودتها أو لإيهامهم باتخاذ إجراءات ضد بعض قادتها وهو يتحيّل عليهم في الواقع بهدف تمرير بعض مؤامراته كما حصل في علاقة بحل المجلس الأعلى للقضاء مثلا. ولكن وهو الأهم هل حسّن قيس سعيد أوضاع البلاد والشعب بعد الانقلاب ليقال إنه أنقذهما من حكم حركة النهضة وحلفائها؟ إن صراع سعيد مع حركة النهضة لم يكن صراعا حول اختيارات وإنما حول كرسي الحكم بين أجنحة مختلفة من النظام. وليس أدل على ذلك من أن أوضاع البلاد والشعب ازدادت سوء عمّا كانت عليه قبل الانقلاب. إن أرقام المديونية والتضخم وعجز الميزان التجاري وارتفاع الأسعار وندرة عدد من المواد الضرورية والبطالة والفقر كلّها موجودة لتشهد على ذلك. إن قيس سعيد لم يغير شيئا من اختيارات سابقيه الرأسمالية التابعة المتوحشة وإنما هو واصلها وقد أوصل البلاد اليوم إلى حافة الإفلاس بشهادة عديد المؤسسات والمراكز الدولية. فهو لم يعط شيئا لا للعمال ولا للأجراء ولا للفلاحين ولا للمعطلين عن العمل ولا للشباب والنساء والمثقفين والمبدعين وإنما فاقم متاعبهم. وبالمقابل فإنه لم يمس مصالح الحيتان الكبيرة رغم كثرة كلامه عن الفساد ونهب المال العام والاحتكار والمحتكرين الخ...ويعلم الجميع اليوم أن حكومة سعيد التي تقودها نجلاء بودن مقدمة على قطع خطوة لم يجرؤ سابقوها من رؤساء الحكومات على قطعها خوفا من ردود فعل الشعب وهي تتمثل في تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي التي ستعمق التبعية والفقر والبطالة وغلاء المعيشة بما لم تعرفه بلادنا من قبل وهو ما سيدفع إلى انفجارات اجتماعية كبرى.
أما من الناحية السياسية فما الذي تحسّن؟ لقد عمّق قيس سعيد حالة عدم الاستقرار بمختلف الإجراءات التي اتخذها في إطار تفكيك مؤسسات الدولة ووضع يده عليها وبمساعيه المحمومة لتدجين القضاء واستعمال القضاء العسكري لتصفية خصومه وتدجين الإعلام العمومي وتعيين الموالين له في مختلف المناصب بنفس الأساليب الفاسدة التي كانت سائدة أيام حكم النهضة ونداء تونس ويوسف الشاهد وقبلهم بن علي، وتعفين الأجواء السياسية ومحاولات تقسيم التونسيين والتونسيات وإثارة بعضهم ضد بعض بما يهدد جديا بحالة تصادم واحتراب أهليين الخ... لقد كانت حركة النهضة تحكم بمعية حلفائها في نطاق ديمقراطية تمثيلية قائمة على «المحاصصة» فإذا بقيس سعيّد يريد اليوم الحكم لوحده، دون «محاصصة»، يغنم منه هو ودائرته الضيقة، يريد حكما فرديا مطلقا، دولة «الزعيم الأعظم»، لا دولة قانون ولا مؤسسات. فهل في هذا ربح للشعب التونسي مقارنة بما كانت عليه حاله أيام النهضة أم هو مواصلة في الانحدار؟ وها هو اليوم دستور سعيّد يأتي ليبين الوجه البشع لمشروعه. وقد بيّنّا أعلاه طبيعة هذا الدستور السياسية الذي يُصفّي عمليا ما فرض من مكاسب بالدم والتضحيات في دستور 2014. ونود الوقوف هنا عند بعض الجوانب الأخرى، الفكرية والاجتماعية.
إن من أهمّ مصائب حكم حركة النهضة هو بلا شكّ الإتجار بالدين وتوظيفه السياسي. ولكن ماذا فعل قيس سعيد منذ استيلائه على الحكم غير توظيف الدين لصالح حكمه؟ إن قيس سعيد كما يعلم الجميع محافظ وهو أقرب في أفكاره إلى حزب التحرير منه إلى «الإخوان المسلمين». وقد اتضح ذلك من خلال موقفه من عدة قضايا تهم خاصة حقوق المرأة والأسرة إذ هو معاد بشكل صريح للمساواة. وها هو اليوم في دستوره يمرر فصلا في غاية من الخطورة، وهو الفصل الخامس الذي يحول به الدولة إلى دولة دينية وبما أن الدولة في الدستور الجديد هي سعيد «السلطان» صاحب كل السلطات فهو الذي سيتحول إلى «إمام الأمة»، المتحكم في ضمائر الناس، الذي يملي عليهم كيف يفكرون ويسلكون ويتصرفون، محققا بذلك ما عجز الغنوشي عن تحقيقه. لقد حاول البعض إدراج مسألة الفصل الخامس ضمن تأويل «هوياتي» لإبعاد الشبهة عن قيس سعيد ولكنه مخطئ كل الخطأ. فلا وجود، كما بينت ذلك الأستاذة نايلة السليني، لمصطلح «مقاصد الإسلام» في الأدب الفقهي القديم، ولكن سعيد استعمله كما قالت من باب التحيل على عقول الناس لأن المصطلح الحقيقي، الشائع هو مقاصد الشريعة، وهو الذي استعمله قيس سعيد نفسه في حواره المشهور في صحيفة «الشارع المغاربي» بتاريخ 12 جوان 2019 أي قبل الانتخابات بمدة قصيرة. والقول إن الدولة تحقق مقاصد الشريعة، ينسف الطابع المدني للدولة ويجعل الشعب خاضعا لأهواء حاكمه الذي يحتكر وحده تأويل «مقاصد الشريعة» وتأويل الدين بشكل عام وهو ما لا يدرك اليوم خطورته أصحاب النظرة القصيرة الذين يتناسون أن الرجوع إلى الوراء يمكن أن يضرب في ظرف الأزمات حتى المجتمعات المتقدمة (الفاشية مثالا).
إن النقاش إذن لا يدور حول ما إذا كان الشعب التونسي في معظمه مسلما أم لا، ولا يدور حول الانتماء الحضاري والثقافي المتنوع والعريق للشعب التونسي ولا حول مكانة الثقافة العربية الإسلامية فيه ولا أيضا حول الانتماء العربي لهذا الشعب، مع العلم ألاّ أحد في هذا المجال قادر على المزايدة على حزب العمال بتراثه الفكري والنظري ومواقفه وممارسته السياسية، وإنما يدور النقاش حول التوظيف السياسي للدين والإتجار به وهو أخطر ما يمكن أن يصيب مجتمع متأزم. وفي هذا السياق فنحن لم نخرج مع قيس سعيد من هذه الدائرة المفرغة، فنحن من صراع إلى صراع حول من يمثل «الدين الصحيح» هل هو هذا الحزب أو ذاك أو هذا الشخص أو ذاك؟ قيس سعيد يصارع الغنوشي والنهضة حول احتكار توظيف الدين لا حول الفصل بين الدين والسياسة. وهو يريد أن يجمّع بين يديه كل السلطات بما في ذلك السلطة الروحية. وقد وجد المدخل عبر وضع كل شيء تحت رقابة الدولة بما أنه هو المتحكم الفرد في كل دواليبها. وبهذه الصورة فهو، كما أشار إلى ذلك زياد كريشان، يقوم بـ»دولنة الإسلام السياسي» كما لم يحصل من قبل.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإننا لم نخرج من دائرة الاستبداد السياسي الذي يتخذ مع قيس سعيد طابعا أوتوقراطيا خطيرا، ولا من دائرة الخيارات الرأسمالية النيوليبرالية المتوحّشة، مع العلم أن الدستور جاء خاويا من كل إشارة جدية لنمط إنتاج الثروة في بلادنا فلا تغيير في أسلوب تملك وسائل الإنتاج من أرض ومصانع ومؤسسات مالية وتجارية ولا ضمانات لمجانية الخدمات الاجتماعية وجودتها ولا أسس ملموسة لتحقيق الحق في الشغل ولا تصورا لتحقيق العدالة الجبائية ولا السيادة الوطنية الفعلية على مقدرات البلاد وثرواتها... كلام فراغ كالمعتاد، يطمئن الحيتان الكبيرة ويغذي الأوهام فقط في أذهان الفقراء والبسطاء المخدوعين بالجمل الشعبوية البرّاقة مثلما انخدعوا في السابق بالجمل الدينية الرنانة.
فَلْيَكُفَّ إذن أنصار «الحاكم بأمره» ودعاة «النعم» عن تخويف الشعب التونسي من الكارثة المزعومة التي ستحل به إذا سقط الاستفتاء بدعوى أن ظروفه ستسوء نتيجة عودة حركة النهضة (بالطبع يقع الإيهام بعدم وجود حلول بديلة). إن أوضاع الشعب التونسي كارثية الآن وهي مرشحة مع استمرار قيس سعيد في الحكم إلى الأسوأ في ظل حكم استبدادي سيعمل على استعمال سياسة البطش لفرض «الإجراءات الموجعة» على الشعب التونسي وقمع احتجاجاته. فعلى ماذا سيخاف العمال والأجراء والمعطلون عن العمل والشباب والنساء والمثقفون والمبدعون؟ على «الخير العميم» الذي يعيشون فيه؟. وهل هم على درجة من السذاجة والخوف حتى يتركوا أيا كان يفعل بهم ما يريد؟ إن جماعة قيس سعيد يستعملون سلاح التخويف لأنهم عاجزون عن تقديم أي شيء للشعب التونسي. وهو ما لا ينبغي أن ينطلي عليه وعلى قواه الحية. فالشعب التونسي يعرف جيدا حركة النهضة وقد قاومها وهي في عنفوانها وأسقط دستورها (دستور 1 جوان 2013) وحكومتها (حكومة علي العريض 2013). وكان النساء والشباب في طليعة المقاومة. ولا نعتقد أن الشعب عاجز اليوم عن مقاومة حركة النهضة وهزمها وسد الباب أمام رجوعها إلى الحكم. إن حصر المسألة في ثنائية: إما القبول بدكتاتورية قيس سعيد وإما العودة إلى حكم النهضة هو أمر مغلوط، يحاول عبره أنصار قيس سعيد تمرير مشروعهم الذي من شأنه أن يدفع بالبلاد نحو المزيد من الانهيار، لأنّ مشروعهم ليس سوى ثورة مضادة داخل الثورة المضادة وهو يهدف إلى الإجهاز نهائيا على الثورة التونسية ومكاسبها والعودة بنا إلى الوراء، إلى مربع الاستبداد في أشنع مظاهره.
3 - إن السؤال الثالث الذي يطرح ولا بد من الإجابة عنه هو التالي: في صورة سقوط الاستفتاء، هل يوجد حلّ مستقلّ يمنع حقا عودة منظومة حكم حركة النهضة أو غيرها من الحركات الرجعية التي تحن إلى الرجوع إلى عهد بن علي ويسير بالبلاد نحو الإنقاذ؟ إن جوابنا واضح، وهو أن الحلّ موجود فعلا. ولكن قبل الحديث عن هذا الحلّ دعنا نقف أولا عند فكرة ذات أهمّية. إن التجارب المختلفة في بلادنا (وفي بلدان أخرى) أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن التعويل، من أجل حسم الصراع مع قوى اليمين الديني، «إخوانا» أو غيرهم، على السلطة الحاكمة (بن علي في تسعينات القرن الماضي) أو على جناح من اليمين التقليدي كما حصل مع الباجي قائد السّبسي أو على طرف من المنظومة نفسها كما هو الحال مع قيس سعيّد هو مجرّد وهم، لا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المصالح، التي يحارب كل طرف من أجلها، في تقاطعها وتنافرها. لقد قمع بن علي «النّهضويين» وخيّل إلى البعض أنّه قام بذلك لصالحهم وصالح الديمقراطية وأنّه سيفتح في وجههم بعد ذلك باب الجنة لكنه فتح في وجوههم باب جهنّم لأن بن علي لم يحارب النهضويين دفاعا عن مشروع وطني، ديمقراطي واجتماعي، ولكنه حاربهم على الحكم وتحديدا على قيادة الائتلاف الطبقي الحاكم، فما أن أجهز على «النهضويين» حتى امتدت عصا القمع حتّى إلى أولئك الذين كانوا يسندونه في هذه العملية، باسطا هيمنته الفاشية على المجتمع بأسره.
أما الذين عوّلوا على الباجي قائد السبسي الذي ادعى في وقت من الأوقات أن حزبه وحركة النهضة خطان لا يلتقيان فقد فوجئوا بالطرفين يلتقيان ويتحالفان في الحكم ويغرقان البلاد في أزمة خانقة. لقد جمعتهما المصالح الداخلية من جهة وضغوط القوى الخارجية المرتبطة بهما والمتحكّمة فيهما من جهة ثانية. واليوم فإن الذين يعوّلون على قيس سعيد، المتلون، والمتنكر لأبسط وعوده، لـ»يريحهم» كما يقولون من «النهضة» مدّعين أنهم «قادرون فيما بعد على فرض ما يريدون عليه»، فإنهم سيصابون بنفس الخيبة. «اللّي يحسب وحدو يفضلّو» كما يقول المثل الشعبي، فلقيس سعيد حساباته ومصالحه وارتباطاته بأجهزة الدولة التي تدعمه وبالرأسمال المحلي الكبير وبقوى خارجية، إقليمية ودولية، تحدد له خطوط السير ونقاط التوقف العامة. والمؤكد أن سعيد، على غير ما يعتقد بعض المغرورين، سيظل يناور بورقة «الإخوان» إلى أن يحقق أهدافه (إن سمحت له الظروف بذلك) ثم سيلقي بحلفائه جانبا ويضحّي بهم وربما وجد اتفاقا مع حركة النهضة نفسها على حسابهم، هذا إن لم تطرأ أحداث أخرى تعصف حتى بحكم قيس سعيد نفسه ليظهر أنه مجرد «محطة» تعدّ لـ»محطّة» أخرى، فيجد المصفقون له اليوم أنفسهم على هامش التاريخ.
إن من يريد أن يهزم حركة النهضة عليه ألا يستظل بأحد أجنحة اليمين ليحقق له هذه المهمة، وإنما عليه أن يعوّل على قواه الذاتية (القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية) وعلى الطاقات الكامنة في شعبه التي عليه أن يعرف كيف يلفّها حول برنامج مستقل ويقنعها به بديلا لحركة النهضة وكافة قوى اليمين. ولا نعتقد أن هذا مستحيل اليوم في تونس خاصة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب في العمق مصالح الشغالين والكادحين وعموم الشعب دون أن يكون لنظام الحكم حلول تخفف من وطأة هذه الأزمة بل إن ما هو ماض فيه من تنفيذ لإملاءات صندوق النقد الدولي سيفجر الأوضاع لا يخمدها. إن الاتفاق على برنامج أدنى بأبعاده الثلاثة، الوطني والديمقراطي والاجتماعي، وعلى طرق تبليغه إلى قوى الشعب المعنية به، وتنظيمها يمثل المفتاح للاستقلال عن قيس سعيد كما عن النهضة أو الدستوري الحر وشق طريق خاص لتحقيق أهداف الثورة التونسية المغدورة. ومع تطور الحركة وارتفاع نسقها ودرجة نضجها فإن القائمين عليها من مختلف القوى سيكون بإمكانهم توفير الأدوات والأساليب لحسم الصراع نهائيا لصالح الطبقات والفئات الكادحة والشعبية.
إن مقاطعة الاستفتاء المهزلة وإفشاله سياسيا وأخلاقيا على الأقل، لغياب عتبة تحدد نسبة المشاركة من جهة وغياب هيئة انتخابية مستقلة وإدارة محايدة من جهة ثانية ولوجود عدة مؤشرات لعملية تزوير شاملة لـ»إنجاح الاستفتاء» من جهة ثالثة، تمثّل الخطوة المباشرة اليوم للمراكمة وتجسيد هذه الاستقلالية والالتقاء حول البرنامج الأدنى. وما من شك في أن تحقيق هذا الهدف يتطلب أولا أن يتخلّى كل طرف عن مماحكات الماضي وخلافاته والوعي بخطورة المرحلة الشعبوية التي تهدف إلى تصفية مكتسبات الثورة بالكامل بما يعني ذلك من خسارة لكافة القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية. وهو يتطلب ثانيا تجاوز ذلك المرض المزمن للحركة في تونس والذي يمثل في الأساس جزءا من إرث الدكتاتورية السّياسي وهو الفصل بين العمل الحزبي والجمعيّاتي أو الفصل بين الأحزاب والجمعيات والمنظمات وحصر كل طرفه في زاويته. فطالما لم يفهم الجميع أنّ الاستبداد الشعبوي وغيره من أشكال الاستبداد سيلتهم الجميع وأن النجاة تكمن في التجميع والاتحاد.
إنّ من يقرأ اليوم بيانات العديد من الأحزاب الديمقراطيّة والعشرات من المنظمات والجمعيات ومقالات المثقفين والمثقفات والحقوقيات والحقوقيين التي تنتقد قيس سعيد، تشدّه كثرتها وتقاطعها بما فيه من دلالة على اتساع رقعة معارضة النهج الشعبوي للرجل، ولكن سرعان ما تأخذه الحيرة من أسباب تشتت كل هذه القوى وعدم قدرتها على تكوين قوة متحدة، ضاربة، توقف المهزلة وتتصدّى للانهيار وتعدّ العدّة للبديل الوطني الديمقراطي الاجتماعي الذي ينقذ مباشرة بلادنا ويضعها على سكة التغيير الحقيقي الذي يربط مع أصول الثورة التونسية المخدوعة.
«الدستور» والاستفتاء: ثـلاثـة أجـوبـة عن ثـلاثـة أسئلـة
- بقلم حمّه الهمّامي
- 10:26 18/07/2022
- 1260 عدد المشاهدات
«الطريق مظلم وحالك فإذا لم نحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق»
تشي غيفارا