خسارة !... فرصة أخرى تضيع

لئن وُضع دستور 1959 على مقاس بورقيبة وهو متمتّع بكامل مداركه وبمشروعية شعبية مكتسَبة من مرحلة النضال ضد الاستعمار،

فإنّ حدود الحكم الفردي ومساوِئَه تبيّنت لبورقيبة نفسه بعد تجربة التعاضد التي ساندها ولم يكن يُسمح فيها لأيّ موقف معارض حتى بالتعبير السلمي، فكان إقراره سنة 1970 بضرورة التقليص من حكم الفرد والتشريك الأوسع في اتخاذ القرارات المصيرية. إلّا أنّ هذا الإقرار لم يُتْبَع بأيّ تحوّل في ممارسة الحكم، بل تكرّس بالرئاسة مدى الحياة. وكانت تلك الفرصةَ الأولى المهدورة في إرساء نظام ديمقراطي ولو كان ناقصا.
وكانت انتخابات 1981 الفرصة الثانية لتمكين المعارضة الممثَّلة أساسا وقتَها في الديمقراطيين الاشتراكيين من الوجود الفعلي في مجلس النواب، ولإحداث قدْر أدنى من التوازن الذي كان مختلّا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وأُهدرت هذه الفرصة كذلك بالتزوير المفضوح لنتائج الانتخابات.
وتواصل العمل بنفس فلسفة الحكم في عهد بن علي، وتتالت تنقيحات دستور 1959 إلى حدّ أن شوّهته وأفقدته أيّة مصداقية.
ثمّ كانت الظروف مواتية بعد ثورة 14 جانفي 2011 لإحداث نقلة نوعيّة في ممارسة الحكم تستجيب لتطلّعات مئات الآلاف من الذين تظاهروا للقضاء على الاستبداد وسرقة أموال الشعب، وللمطالبة بالحرية والشغل والكرامة. إلا أنّ استغلال الإسلام السياسي - مدعوما بالمال الخليجي والمصالح الإسرائيلية-الأمريكية - للثورة على الاستبداد، لغاية إرساء حكم لا يؤمن أصلا بالدولة وبعلوية القانون الوضعي، أدّى إلى دستور 2014 الذي فكّك أواصر الدولة وميّع المسؤولية وفَتَح الباب للقوى الرجعية والنكوصية ترتع في الساحة السياسية والإعلامية والتربوية، عوض أن يَدعم مشاركة القوى الحيّة في المجتمع ويؤهّله للرقيّ والازدهار. وكانت تلك هي الفرصة الثالثة المهدورة التي انتهت بمأزق 25 جويلية 2021 وما تلاه.
لقد كنّا نأمل في أن يكذّبنا الواقع حين صرّحنا منذ الإعلان عن دستور 2014 أنّه لن يعمّر، ونحن مضطرّون اليوم مع الأسف إلى التصريح بأنّ دستور 2022 في صيغته الحاليّة هو بدوره فرصة ضائعة عندما نضعه على محكّ التحليل التاريخي، ونضع في الحسبان درجة النضج لدى القوى الفاعلة والوازنة في مجتمعنا. بل لا نتردّد في القول إنّه دستور متأخّر في العديد من أحكامه عن دستور 1959، وإن كانت فيه أحكام أخرى متقدّمة عليه. ومهما كانت نتيجة الاستفتاء فإنّ دستور قيس سعيّد لن يبقى بعده، لا لِما فيه من تناقضات وأحكام معيارية ضعيفة السند المعرفي فقط، بل لأنّ الوضع لا يقتضي قيام حكم قويّ افتقدته تونس في العشرية الماضية وحسب، ولكنْ قيامَ حكم مضادّ قويّ هو كذلك بإزائه. فلا ديمقراطية ولا حرية ولا تقدّم اجتماعي واقتصادي ولا استقرار دون سلطة قويّة وسلطة مضادّة معا.
ونترك للسياسيين ولزملائنا المختصين في القانون الدستوري مهمّة نقد المشروع المعروض على الاستفتاء في أحكامه وفصوله، وننبّه فقط بحكم اختصاصنا إلى أنّ المَثل الأعلى الذي يعكسه هذا المشروع مثل أعلى رديء ربّما كان يستجيب لظروف المجتمعات الإسلامية في فترة الجمود والانحطاط الحضاري حين كانت نخبتها تهدف إلى أن تتجنّب مجتمعاتُها مزيدَ التأخّر وهي مهدّدة بقوى خارجية جديدة، فحثّتها على المحافظة على ما سمّي بالكليات الخمس. ولكنّ هذا المثل الأعلى لم يَعُد لا كافيا ولا محفّزا على الفعل في التاريخ منذ أن أصبحت الغاية من الوجود تتمثّل في تحقيق الذات، وضمان كرامة الأفراد، والمساواة بينهم بصرف انظر عن الجنس والعقيدة واللون، واكتشاف المجهول، والاختراع المتواصل، والإبداع على غير مثال، وحتّى المغامرة، وكسر الحواجز التي كانت تحول دون الحرية والانعتاق من القيود، أيّا كان مأتاها وأيّا كان مبرّرها.
إنّ مشروع الدستور الذي سيُعرض على استفتاء 25 جويلية المقبل سيُدخل لا محالة حركيّة جديدة على الحياة السياسية. والأمل معقود، وإن كان ضعيفا جدّا، على أن يَقبَل صاحبُه قبل هذا التاريخ بالملاحظات الجوهرية التي يبديها المعنيّون بالشأن العام والحريصون على الاستقرار والتقدّم، حتّى يُنقّح هذا المشروع بما من شأنه أن يضمن له الديمومة. فذلك خير له ولتونس من التعنّت والإصرار على الوهم بأنّه الوحيد الذي يخدم المصلحة العامة والمؤهَّل لتقديرها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115