قبلت دون تردّد. فالاطّلاع على ما يكتب أو يقال عن الشأن التربويّ دأبي منذ وعيت على خطر هذا الشأن في بناء المجتمعات وتقدّم الأمم على قواعد راسخة من العلم والمعرفة والقيم.
والحقّ أن حماستي للكتاب - وعلى الحساب - كانت في محلّها. التربية على التعدّد والثقافة الديمقراطيّة، هذا مدار الاهتمام في الكتاب الذي أسهم فيه ثلّة من المدرّسين الباحثين والمدرسات الباحثات، وكان على قسميْن قدّم لهما الأستاذ نادر الحمّامي بمقدّمة مستفيضة عن «التعليم ووطأة النماذج المغلقة». دار القسم الأوّل على «البرامج التعليميّة والنماذج الهوويّة» وفيه وردت أربع مقالات للأساتذة أميرة الهويملي وناظم بن إبراهيم، وحازم الشيخاوي، وسلمى بن عمر، وانعقد القسم الثاني على «التعليم المنمّط في واقع متعدّد»، وأسهم فيه الأساتذة رامي البرهومي، وفهمي الرمضاني، وسندة العرفاوي مع أميرة الهميلي.
طرافة الكتاب في تقديري تكمن في المنهجية المتوخّاة للفحص عن إشكاليّة مجتمعيّة أكثر منها تربويّة تعليمية بالمعنى الضيّق: تشخيص وضعية المنظومة التربوية في مجال التربية على التعدّد والثقافة الديمقراطية. ولعلّ دراسات الكتاب محاولة، من هذا المنظور، لتشخيص الأزمة القائمة في بلادنا، وهي أزمة مجتمع يتدرّب على الديمقراطيّة. لقد اعتقدنا في وقت من الأوقات أنّ التغيير السياسيّ الحاصل على رأس المنظومة الحاكمة قبل جانفي 2011 كفيل بالدخول في مرحلة اصطلح عليها بمرحلة الانتقال الديمقراطيّ من خلال صياغة دستور وبناء مؤسّسات وخوض انتخابات. ولكن، وفي غياب ثقافة ديمقراطيّة حقيقية تكرّس الحقوق والحرّيات وفي الصدارة منها الحقّ في الاختلاف، وفي ظلّ الذهول عن استحقاقات هذا الانتقال اقتصاديّا وثقافيّا، سرعان ما تسلّل التصدّع إلى مشروع الانتقال الديمقراطيّ عند أوّل امتحان يتعرض له. وأفقنا على أنّ ما كنا بصدده قد وقع تحريفه ليكون مجرّد واجهة ديمقراطيّة تثوي في زواياها الخلفيّة شتّى الأفكار والممارسات والمشاريع التسلطية والنكوصيّة والزبونيّة، وأنّ ما هفونا إلى تركيزه من إصلاحات سياسيّة تمّ الاستيلاء عليه لينقلب إلى خدعة الصبي عن اللبن !
من هذه الزاوية، فإنّ الاشتغال على موضوع التربية وعلاقتها بالتعدّد والثقافة الديمقراطيّة هو توجّه مفهوم قصد الوقوف المتأنّي على مآزق هذا الانتقال الديمقراطيّ المحجوز. على أنّه من الوجيه، أيضا، أنْ نبدأ بإزالة التباس منهجيّ ننسّب فيه مناط الكتاب حتّى لا يكون قائما على مسلمة ضمنيّة ترى في الثقافة الديمقراطيّة والتعدّدية اختصاصا تربويّا تضطلع به المدرسة بالأساس.
ولعلّه من غير الإنصاف تعليق هذه المهمة الكبرى على المدرسة وحدها. المدرسة، على مركزيّة دورها، أعجز، اليوم، من أنْ تتولّى حصريّا مهمّة التربية على التعدّد والثقافة الديمقراطيّة. قد نقبل هذه المقاربة إذا علّقنا المهمّة كذلك على مؤسّسات رديفة كالثقافة والإعلام والأحزاب ومكوّنات المجتمع المدنيّ وغيرها من مؤسّسات الضبط والتعديل والتنشئة الاجتماعيّة وصناعة الرأي العام. ومن البيّن أنّ هذه المؤسّسات واقعة بشكل أو بآخر، وبتفاوت بينها إمّا تحت وطأة نماذج اجتماعية تقليديّة، وإمّا أنّها مرتهنة للسلعنة ومقتضيات السوق، وإمّا كونها واقعة تحت ثقل وسلطة الدوغمائيات الدينيّة. وبعبارة ماكس فيبر، فإنّ العقلنة الدينية مدخل لعقلنة جميع التصرفات الاجتماعية، بما فيها التصرّفات الاجتماعيّة داخل الحقل التربويّ.
ما أنصف أهل زماننا وهم ينعون على المدرسة تخلّفها عن مهمّة التربية. وما عدلنا إذ عقدنا على المدرسة مهمّة التربية على التعدّد والثقافة الديمقراطيّة !
في غياب تصوّر منظوميّ للتربية والتعليم، يسود الانتصاب الفوضويّ. وفي ظلّ انعدام «عقيدة» تربويّة تنويريّة عبر مدوّنة سلوك جامعة وملزمة فإنّ ما يبنيه هذا الفاعل التربويّ يهدمه فاعل تربوي آخر، وما يزرعه هذا الفاعل يقتلعه غيره، وما «يحلّه» هذا «يحرّمه» ذاك. وكلّ يغنّي على ليلاه.
مازلت أقرّ أنّ التربية على المواطنة، والتربية على التعدد والتعايش، والتربية على الثقافة الديمقراطية، والتربية على وسائل الإعلام، والتربية على حقوق الإنسان، والتربية على البيئة، وسائر التربيات على.. لم تعدْ اختصاصا حصريا للمدرسة. قد يكون ذلك اختصاصا لها قديما. اليوم، كفّت المدارس على التربية بمعناها الذي كان لها، وصارت تنازعها مؤسّسات أخرى، ووسائط منافسة، ووسائل مستحدثة.
ومع كلّ ذلك، لا بأس من أن نبدأ بالكنس أمام دارنا.
النقطة الثانية في طرافة هذا الكتاب تتعلق بالمقاربة الموضعيّة للدراسات الواردة فيه. فهي دراسات ميدانية بالأساس، اتخذت لها مدوّنة مخصوصة من البرامج الرسمية والكتب المدرسية على محور تعليمي يمتدّ من المرحلة الابتدائية إلى نهاية التعليم الأساسي أي إلى نهاية المرحلة الإعدادية. صحيح، كان من المفيد سحب المقاربة وتوسيع المدوّنة لتشمل برامج التعليم الثانويّ انتهاء بالأقسام النهائية حتّى يكون العمل أشمل وأوفى استقصاء واستقراء، وتكون النتائج أدلّ وأنجع. ولكن تمّ الاكتفاء بهذا القدر الحاصل، وقد يكون المجال مفتوحا في المستقبل لاستكمال البحث في سائر المستويات التعليميّة.
النقطة المنهجية الثالثة، هي انصراف الدراسات الميدانية إلى تعلّمات مختلفة من اللّغات (العربيّة والفرنسية والأنقليزية)، إلى المواد الاجتماعية (تاريخ وتربية إسلامية ومدنيّة) دون أن تغفل عن الإلماع إلى حضور المشكليّة المدروسة في مادّة علمية (الإيقاظ العلمي) في المرحلة الابتدائيّة.
ومن الجدير بالإبراز أنّ الباحثات والباحثين لم يكتفوا بالتشخيص والتفكيك والتحليل بل تجاوزوا ذلك لاقتراح بدايات مسارات إصلاحية في أسلوب مقارني بين ما تنصّ عليه البرامج الرسمية وما تحقّق في الكتب المدرسيّة. وهذا هو الوجه الرابع في طرافة الكتاب.
إنّ كتاب «البرامج التعليميّة والتربية على التعدّد» يقول علنا في كتاب منشور ما يدور همسا أو يعتمل في الصدور أو يتردّد في فضاءات التفكير حول المنظومة التربوية ومآزقها القديمة الجديدة. ولذلك، نحسب أنّه سيكون إضافة مهمّة للمكتبة التربوية يستأنس ببعض خلاصاته الخائضون في الجدل الدائر على إصلاح المنظومة التربويّة، وتشخيصا أوّليّا يعتمده مهندسو البرامج ومؤلّفو الكتب المدرسيّة، ومرجعا جدّيا من بين سائر المراجع والاجتهادات والمقاربات التي يحتاج إليها القائمون على رسم السياسات العمومية في مجال التربية والتعليم.
إنّ مدرسة الجمهوريّة التي كانت العنوان الأبرز لتجربة التحديث التونسية قد دخلت منذ زمن في التراجع والتآكل. يلهج الجميع بضرورة الشروع في إصلاح المنظومة التربويّة، ولكنْ قلّة هم الذين يجرؤون على إعلان الرهان الأكبر، وهو «نزع السحر» عن المؤسسة التربويّة، وتخليصها من دوغمائياتها المستحكمة. دوغمائيّات قائمة تترجم عبر تقديم معرفة مغلقة ناجزة ومتعالية لا تستحثّ من المتعلّم إلا الاتّباع والتنفيذ باعتبارها تلقّن استباقا الإجابات النهائيّة عن مختلف الأسئلة «التي تطرح نفسها» أو هي تعرض باعتبارها «حقائق مطلقة» لا مجرّد اجتهادات بشريّة قابلة للنقد والنقض والدحض والتنسيب.
التربية، وكما تدلّ مادّتها المعجميّة [ر.ب.ي] تعني التطور والنمو والحركة والتجدّد المستمرّ، وكل عمليّة تربويّة ممارسة تقتضي التقييم المتواصل والمتغيّر من أجل تطوير الممارسة ذاتها، ومواءمتها بحسب الحاجات والاستراتيجيات.
عودا على بدء، فإنّ التربية عملية سياسيّة، كما أنّ السياسة عمليّة تربويّة. والمشاكل البيداغوجيّة تكتسي بعدا سياسيّا حتّى أنّه لا يمكن الفصل بين النظام السياسيّ في مجتمع مّا والبيداغوجيا التي يتوسّل بها في التربية والتعليم. وبعبارة فيلسوف التربية جون ديوي، فالمدرسة هي المختبر الذي تقاس به ديمقراطيّة مجتمع مّا، ولا يعتبر مجتمع ديمقراطيّا إلاّ إذا كوّنت المدرسة ديمقراطيّين حقيقيّين !
وهل عند رسم دارس من معوّل؟ !