وفي الحقيقة تلك الشائعات التي تروّج لها الصّفحات الموالية للرّئيس، تعكس أماني أنصاره وأحزمته وردّ فعلهم على رفض الاتّحاد الانضواء تحت لواء لجنتي إبراهيم بودربالة والصادق بلعيد.
ومنذ مدّة وتلك الصّفحات تشنّ في حملات تشويه وتحريض ضدّ الاتحاد متّهمة إيّاه بالعمل على إفشال الحوار الذي دعا إليه الرئيس والوقوف ضدّ مشروع هذا الأخير
استخدام تهمة السّياسة ضدّ النقابات ليست بالشيء الجديد، فمنذ الرّبع الأوّل من القرن الماضي وبالتّحديد منذ سنة 1924 حيث قامت سلطات الاحتلال الفرنسي بحلّ جامعة عموم العملة التّونسيين بعد بضعة أشهر من تأسيسها على يد «محمّد علي الحامي» وثلة من رفاقه والزجّ بقياداتها في السّجن ونفي مؤسّسها على أساس توظيف العمل النّقابي لأغراض سياسية.
وبالرّغم من الشّراكة التي جمعت الاتّحاد بالحزب الحرّ الدّستوري بعد الاستقلال البلاد فإنّ ذلك لم يمنع من حدوث توتّرات واضطراب في علاقتهما وذلك بسبب المنافسة وتداخل الأدوار بينهما، وبسبب إصرار الاتّحاد على أن يكون شريكا في وضع السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للبلاد وحين يتحوّل الأمر إلى أزمة ومواجهة على الميدان، تسارع الدّولة إلى اتّهام الاتحاد بالخروج عن دوره والتّدخّل في الشأن السياسي متناسية أنّ انبعاث الاتحاد كان لدوافع سياسيّة، والهدف الأول منه هو تعزيز كفاح الحركة الوطنيّة من أجل الاستقلال وقدرتها على التعبئة
وقد كشف الإضراب العام في جانفي 78 عن حقيقة حضور الاتحاد وأهمّية دوره على الساحة حيث اجتمعت من حوله كلّ القوى السّياسية والاجتماعية بالبلاد وانقسم المجتمع السياسي في تلك المرحلة عموديّا وأفقيّا وقد اُقيل وزير الدّاخلية واستقال ستّة وزراء تضامنا مع الاتحاد واصطفّت المعارضة وراءه للتعبير عن وجودها، وخرجت التيارات اليساريّة أوّل مرّة بعيدا عن أسوار الجامعة لترويج خطابها الرّاديكالي ضدّ الخيارات الرأسمالية للحكومة، وقد سادت في تلك الظروف مناخات شبيهة بالمناخات التي سبقت الإضراب الأخير، وتعرض النقابيون وقيادات الاتحاد إلى نفس الجهوم الذي يتعرّضون إليه اليوم بنفس التهم ونفس العبارات.
لكن ورغم لجوء السلطة إلى سجن عدد من النقابيين وفرض قيادات غير شرعية على رأس المنظمة، لم تفلح في إضعاف الاتحاد وإلغاء دوره كسلطة مضادة تحتاجها البلاد لإحداث التوازن والحد من التجاوزات، الشيء ذلك الذي لم تفهمه النهضة حين أمسكت بالحكم إثر انتخابات 2011 حين فكّرت في تحجيم دور الاتّحاد والحدّ من تأثيره بحجّة وضع التّصدّي للانفلات الذي كان سائدا حينها والذي تحمّلت مسؤوليته للإتّحاد
وارتكبت الحماقة بالهجوم على المقرّ المركزي للاتحاد والتّعدي على النقابيين في 4ديسمبر 2012 أثناء إحيائهم لذكرى استشهاد الزّعيم النّقابي «فرحات حشّاد» ، تلك الذكرى التي لها رمزية كبرى لدى كافّة شرائح الشعب، فواجهت ذلك الجمهور الواسع من العمّال والموظفين الذين هبّوا لحماية الاتحاد والالتفاف، حينها فهمت النهضة متأخّرة تجذّر تلك المنظمة في النسيج السياسي والاجتماعي وسلّمت بوجوده كمعطى ثابت في الحياة الاجتماعية والسياسية بالبلاد لا يمكن تجاهله، وقبلت بقيادته للحوار الوطني الذي انتظم إثر الأزمة الخطيرة التي كادت تعصف بالبلاد بعد الاغتيالات السياسيّة ودخول مسار الحكم في مأزق. وقد أثبت الاتحاد بعد أن نجح في سحب فتيل الانفجار في ذلك الوقت ولاقى دوره استحسانا إقليميّا ودوليّا أنّه الجهة الوحيدة القادرة على التواصل مع كلّ الفرقاء وجمعهم حول مائدة الحوار
فهل أنّ المعضلة في البلاد هي أنّ حكّامه إمّا لا يقرأون جيّدا التاريخ أو لا يستخلصون منه العبر الازمة لتجنّب الوقوع في نفس المطبات وتكرار أخطاء سابقيهم؟ يبدو كذلك، لأنّ الاتحاد كان من أوّل من ساند 25 جويلية ووجد نفسه على نفس الموجة مع الرئيس حول الموقف من المنظومة السّابقة وضرورة إنهائها، وكانت الإشارات الأولي الصّادرة عن الرئيس سعيد من خلال استقبالاته المتكرّرة للأمين العام للمنظمة تدلّ على ظهور شراكة متينة بينهما، خاصّة أنّ الرئيس يحتاج لقوّة بديلة عن الأحزاب التي كان ينوى استبعادها. لكن مفهوم الشراكة عند الرئيس يختلف تماما عن مفهوم الاتحاد، فالرئيس كان مصمما على المسك بكل الأوراق بين يديه ووضع سياسات المرحلة بنفسه وعدم اقتسام السلطة مع أي كان حتى مع الذين يساندونه، ويرى أنّ دور مناصريه السير خلفه ودعم قراراته، لذلك استبعد كلّ بمبادرات من خارجه، في حين أنّ مفهوم الاتحاد للشركة هو اعتماد التشاور والاتفاق على البرامج والمواقف التي يجب اتخاذها وتقاسم الأدوار، ذلك هو جوهر الخلاف القائم بين الرئيس والاتحاد، والغريب أن من يمسك السلطة اليوم والأحزمة المتشكلة من حولها تعقد بأنّه من الممكن إخضاع الاتحاد للقبول بأن يكون مجرّد عضو في لجان أقرّها الرئيس بمفرده في حوار كان وصفه الاتحاد بالصوري، وفي حالة تمسكه بالرفض يمكن التصرف معه كما وقع التّصرّف مع المجلس الأعلى للقضاء ومع اتحاد الفلاحين وإعادة تشكيله بما يجعله منسجما مع خيارات الرّئيس، وها تأتي أهمّية المعرفة بالتاريخ وبتفاصيل تركّب المشهد التونسي، فالاعتقاد بأنّه يمكن من خلال حملات الشيطنة والتشويه والنفخ في الخلافات الداخلية اختراق الاتحاد ووضع اليد عليه، فهذا وهم خطير كانت كلفته غالية على الدولة والمجتمع ولم تتحقّق منه أيّ نتائج في مواجهات 78 و، 85 والالتجاء إلى الدعاية القديمة بتحميل الاتحاد الكوارث المالية والاجتماعية التي لحقت البلاد لعزله عن فئات الشعب القريبة منه، هو أيضا أسلوب عقيم بالرغم من الضجيج والصراخ الذي يعطي الانطباع بأنّه وحده يملأ الدّنيا لأنّ الطبقة الوسطى رغم تباين مواقفها أحيانا من الاتحاد وقيادته ف في أعماقها تعرف جيدا بأنّها لو فقدت الاتحاد ستفقد أخر جدار تحتمي به، ولذلك شاركت الآلاف المؤلفة منها في الإضراب رغم كلّ وسائل الدعاية والإمكانيات الضخمة التي سخّرت لإفشاله، هل يوجد من يلتقط تلك الرسالة ويفهم معانيها العميقة يا ترى؟
في الإضراب والسياسة
- بقلم مصطفى بن أحمد
- 12:16 23/06/2022
- 1265 عدد المشاهدات
في الأخير نجح إضراب 16 جوان 2022 وذلك عكس ما توقّعه الذين راهنوا على إمكانية تصّدّع الصف النقابي وعدم استجابة القواعد لدعوة الإضراب،