المصارعين والتي تنتهي في أغلب الأحيان بالموت، وكان الإمبراطور يتابع بنفسه تنظيم هذه الفرجة ويحرص على توفير كلّ مستلزمات النّجاح لها، بجلب العبيد والأسرى والحيوانات الوحشيّة لتأثيث تلك المواجهات بالمشاهد الأكثر عنفا وإثارة، كان لتلك المسارح دور كبير في حياة الرّومان، حيث كانت الوسيلة المثلى للتّنفيس عن الأهالي ممّا يشعرون به من كبت واحتقان في حياتهم اليوميّة، فهي المناسبة الوحيدة التي تتاح لهم فيها سلطة الحكم بالموت أو بالبقاء على المصارع المهزوم وهو مطروح أرضا وسيف المنتصر على رقبته، فبناء على إشارة منهم إلى الأسفل أو إلى الأعلى، يحسم الإمبراطور الامر بما أن الكلمة الأخيرة تعود له، وفي عالم كان يسوده العنف والبطش عادة ما تكون الأحكام بالقتل، لأنّ الجمهور يجد متعته في رؤية القتل وسفك الدّماء غير مبال بمن يكون الضّحية ولا بالأسباب التي قادته إلى الموت.
وحتّى بعد أن ذهبت تلك العروض مع سقوط الإمبراطوريّة الرّومانية، وبات «الكولوسيوم» أطلالا تشهد على وحشّة ذلك العصر، فإنّ عروض القتل والتّنكيل بالبشر لم تتوقّف على مدى كلّ العصور، وإن كانت تختلف في أسباب وأشكال السّحل المادّي أو المعنوي فإنّها تشترك في الاستناد إلى غرائز الجماهير العريضة في الثأر والانتقام ممّن تصورّهم الحكومات كأعداء لها ولمصالحها.
وقد وصّف بعض القضاة مرارة القهر والظّلم الذي يشعرون به جرّاء عزلهم بمجرّد مرسوم رئاسي دون إعطائهم الحقّ في الدّفاع عن أنفسهم وسدّ الطّريق أمامهم للطّعن في هذا القرار، والأخطر من ذلك أنّه تمّ تغليفه بعنوان محاربة الفساد وإعطاء المجال «للغوغاء» لتطلق سهامها على سّبعة وخمسين قاضيا دفعة واحدة وتطلق شتّى الأحكام المذلّة والمهينة لهم دون أيّ إثبات أو حجّة، إذا كان رفض هذا القرار والتّباين معه بسبب خلفيّات صدوره، فهذا لا يعني إنكار وجود فساد داخل القضاء، فقد عانى هذا السّلك الكثير من الأخطاء والفظائع التي أُرتكبت على أيدي قضاة ومتدخّلين في المجال، لكن لا يمكن تصديق التّعليل المقدّم لخلفيّة هذا القرار، فصاحب السّلطة في تونس ومنذ مفتتح ولايته وضع نصب أعينه الاستحواذ على سلطة القضاء ،لذلك لم يفوّت أية فرصة للتهّجّم عليه وكيل شتّى أنواع الاتّهامات والطّعن في أحكامه دون تقديم أيّ إثبات لصحّة اتّهاماته، وحتّى بعد أن تسنّى له حلّ المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وتنصيب مجلس آخر وفق تصوّره اتّخذ قرار العزل بمفرده ضاربا عرض الحائط وعده بعدم التّدخّل في شؤون القضاء واحترام استقلاليّته ، ثمّ أنّ نزعة السّلطة للهيمنة على القضاء ليست جديدة، فكلّ السّلط المتعاقبة سعت بطرق مختلفة للهيمنة عليه وتوظيفه في سياساتها، وقد سبق أن اتخذ وزير العدل التّابع لحكم الترويكا في بداية الثّورة قرارا مماثلا بعزل واحد وثمانين قاضيا ثمّ بعد ذلك أسقطت المحكمة الإدارية قراره وأعادت لهم اعتبارهم .
ما يختلف عن المحاولات السّابقة في تركيع القضاء هو أنّ الأمر يندرج هذه المرّة ضمن مفهوم جديد لدوره، مفهوم ينزع عنه صفة السّلطة المستقلّة ويحوّله إلى ذراع من أذرع السّلطة التّنفيذية، لذلك يولى صاحب السّلطة أهمّية قصوى لهذه الضّربة التي يعتقد أنّها سترفع من أمامه آخر حجر عثرة تحول دون وصوله لمبتغاه.
لذلك يحتاج لدعم « الكلوسيوم « السّياسي بمختلف فئاته في تثبيت القرار، فدور العامّة يكون بالتّهليل والتّرحيب بقرار قائدها الملهم والمظفّر وإعطائه إشارة «سحق العدوّ» دون شفقة ولا رحمة، ودور «النّبلاء» هو توفير المبرّرات الأخلاقيّة والقانونيّة لمثل ذلك القرار، وذلك لإراحة ضمير صاحب السّلطة وحمل وزر المجادلة والمحاججة عنه، وأوقح فتوى صدرت في الموضوع جاءت على لسان إحدى النّاشطات المتصدّرات للحملة التفسيرية لمشروع الرئيس حيث قالت «بأنّ مرسوم العزل ينصّ على الإعفاء والمحاسبة من خلال إثارة الدّعوة العموميّة ومنع الإفلات من العقاب لضمان العدل وإذا تمّت تبرئة أيّ معزول يمكنه الطّعن والعودة إلى سالف عمله « بمعني قلب للقواعد القانونيّة بجعل المتّهم مدانا حتى تثبت براءته وجعل الحجّة عليه وليس على من ادّعى.
والغريب في الامر أنّه في بلد طالما تفاخر بعراقته في اعتماد القانون وأنّه احتضن ميلاد أوّل دستور في العالم خمسة قرون قبل الميلاد، يشهد اليوم انتشار مثل هذه الفتاوي وهذا المنطق الذي يستخفّ باحترام القواعد والقوانين المحلّية وحتّى الدّولية ويجد من ينصت إليه ويسانده حتّي ولو ينجرّ عن ذلك ظلم جزء من مواطنيه وتجويعهم كما يحدث مع القضاة بدعوى أنّ البلاد تحتاج إلى صعقات كهربائيّة لتعيد الحياة لأجزاء منها التي أصابها الشّلل بفعل آثار سياسات «العشريّة السّوداء» ، وإن كلّفها ذلك بعض الأضرار الجانبيّة.
لكن ما يغيب عن أصحاب هذا المنطق أنّ مثل هذه الوصفات الشّعبويّة جرّبت في دول لها أكثر منّا موارد وتمتلك أجهزة أقوى لكنّها خلّفت كوارث لأنّ العالم لم يعد يتّسع « للقادة الملهمين» وأغلبهم خلّفوا أوطانا مفكّكة لإخضاعها لتجارب وتصوّرات وهميّة، وانّ أولئك الذين يلعبون دور نبلاء « الكولوسيوم» الجالسين دوما حذو الحاكم يزيّنون له كلّ قرارته ويدفعونه إن اقتضت مصالحهم ذلك إلى تحويل البلاد إلى معتقل كبير ووضع كلّ الأهالي تحت الرّقابة. لكن كلّما شعروا بانقلاب الرّيح كانوا أوّل من يقفز من المدارج والاندساس وسط الجمهور في انتظار أن يعاودوا التّشكّل من جديد حول أي حاكم يأتي وبأيّ خطاب يكون.
«كولوسيوم» تونس لن يغلق قريبا وسيقدّم عروضا أكثر غرابة وإثارة وستنقلب فيه الأدوار أكثر، فمن هو في المدارج اليوم قد يصبح غدا وسط الحلبة ينتظر الإشارات التي ستحدّد مصيره، ومن هو في الحلبة قد يقفز ويأخذ مكانه حذو الحاكم.