كلّ ما نقوم به هو التحقيق في الجرائم، عرضها على القضاء ثمّ وضع المجرم في السجن. البقية يتكفل بها الآخرون، يتشرون تفاصيل الجريمة على منصات التواصل الاجتماعي وتبدأ مقترحات التعاطي مع الظاهرة التي في أغلبها الدعوة إلى التشديد في الردع الذي يصل بعضها، وذلك مرتبط بحجم الجريمة ورأسمالها النفسي والمشهدي، إلى الإخصاء أو الإعدام. وما بقي لا يعدو أن يكون تشفيا...
لا يخلو أي مجتمع من جرائم، الجريمة هي جزء من التركيبة البشرية وجزء من التعاقد الاجتماعي. تنوعها وتطور منسوبها يكشف عن أزمة متعددة تبدأ من العائلة وتنتهي عند الدولة مرورا بكل مؤسسات المرافقة والتنشئة والتحولات الاقتصادية وتحولات الفرد والعلاقات الدولية والإقليمية، دون إهمال المنظومات التشريعية والسجنية ومقاربات الإحاطة الاجتماعية. إذا التساؤل حول الجريمة هو تساؤل حول الظاهرة في بعدها الكلي المترابط ولهذا فهي إحدى أهمّ مفاتيح فهمنا لأنفسنا ولعلاقاتنا الاجتماعية.
دخلنا كما دخل غيرنا فيما يمكن تسميته بدولة الغياب ولكن في الحالة التونسية ليس اختيارا بقدر ما هو فقدان القدرة على التحكم في الأشياء وإدارتها بأقل ما يمكن من التكاليف، وتقوم دولة الغياب بالقليل لفائدة مواطنيها، هي دولة تكتفي بالهيمنة وبإدارة هذه الهيمنة دون أن تكون دولة خدمات. بدأت دولة الغياب مع الاقتصاد النيوليبرالي الذي أبعد الدولة الاجتماعية وترك لها فقط العناية بحماية أمن الأفراد وحماية حرياتهم وكذلك ممتلكاتهم. لا يحق للدولة أن تجعل من العدالة الاجتماعية مركزا لنشاطها أي ألاّ يكون لها أيّ تدخل في الحدّ من التفاوتات بين الأفراد. ويظهر هذا التمشي بتنازل الدولة شيئا فشيئا عن تحكمها في الشأن الاقتصادي وفي الاختيارات الاقتصادية لفائدة قوى أخرى تتحكم في السوق وتدير مجالاته المختلفة بما يضمن لها مصالحها دون قرار مركزي من الدولة. إننا قد نكون النسخة بائسة من نموذج دولة الغياب وهو ما يضاعف أزمتها ويجعلها الدولة التي يمكن انتهاكها والتطاول عليها خارج ما هو مألوف و متعاقد حوله.
ليست الجريمة فقط ذلك الفعل الشائن الذي يقوم به الفرد أو المجموعة للإضرار بالغير أو بالممتلكات فردية كانت أو جماعية. الجريمة هي عنوان فشل سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وأخلاقي. الجريمة هي عنوان إضافي لفشل مؤسسات الإحاطة ومؤسسات الخدمات الاجتماعية، هي بشكل واضح أزمة غياب مشروع مجتمعي. فمنذ دخول تونس في اقتصاد السوق بداية من سبعينيات القرن الماضي دخلت معه الجريمة منعرجا جديدا، تفاقمت الجرائم التي لها علاقة بمجتمع استهلاكي في طور التشكل، وبرزت معه الجرائم الاقتصادية وجرائم الأموال. إن ديناميكية الاختيار التنموي في تلك الفترة دفعت بالأفراد إلى تدبّر أمورهم في مجتمع لا تكون المكانة فيه سوى لأولئك الذين لهم القدرة على التدبّر. تفاقمت الآزمة منذ ذلك الحين ودخلنا مرحلة معقدة من مراحل اقتصاد السوق مصحوبة بنمو ثقافة الاستهلاك نموا مرضيا مصحوبا بتهاوي مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تجوزها الأفراد بطموحات جديدة ولكن بخيبات كبيرة أيضا. وهو ما يمكن أن يكون دافعا لشاب كي يقتل مواطنا أو مواطنة فقط من أجل هاتف جوال. ضاقت المسافة الآن بين السبب وبين الإقدام على الجريمة البشعة.
الفردانية التائهة ودولة الغياب عناوين كبرى لهذه المرحلة. فيما هو موصول بالفردانية التائهة فهي تلك الفردانية العدمية التي لا تدرك أنها يمكن أن تصنع التاريخ. الفردانية التائهة هي تلك الفردانية التي لا بوصلة لها وهي غير القادرة على إحداث التوازن بين القدرات التي تمتلكها وإكراهات اقتصاد السوق وثقافة الاستهلاك والسباق المحموم نحو تحقيق الذات بكل السبل المُتاحة. الفردانية المهووسة بفردانيتها تُدخل الفرد في متاهات دون أن يكون هذا الأخير مسنودا بمؤسسات الحماية الاجتماعية و دون أن يكون كذلك مسنودا بقيم جامعة تخفف عنه وطأة و ثقل متطلبات فردانية موغلة في النرجسية. يجد الفرد نفسه وحيدا دون أي سند، عليه أن يُثبت للجميع أنّ له مكانة في مجتمعه بعد أن لفظته المدرسة ولفظه سوق العمل ودخل دوائر المهمّشين. يعيش هذا الفرد التائه مشاكله الاجتماعية العديدة على أنها إخفاق شخصي وهو ما يزيد من آلامه ومن درجات إحباطه. قد تقوده هذه الحالة إلى الانتحار وقد تقوده إلى الجريمة ومنها إلى المؤسسة السجنية التي في أغلب الأحيان تعطيه شهادة في الاجرام، هناك يقع الاعتراف به. وعن ماذا يبحث المجرم سوى أنه يبحث عن اعتراف مفقود.