خفايا ومرايا: يقتلنا نصف الموقف أكثر

سلام لروحك مظفّر النّواب، أنت أوّل من صدع بحقيقتنا، ربّما كانت كلماتك فظّة، قاسية ومُرّة كالعلقم لكنّها كشفت لنا عللنا وخداعنا لأنفسنا،

نحن من يختلق الأكاذيب لنكون أوّل من يصدّقها، ونحن من نصنع هزائمنا ثمّ نلقيها على الآخرين، نحن أصحاب نصف الحروب، نصف الثورات، نصف المواقف.
آ لسنا من قال للعالم إنّنا صنعنا ثورة ولم نترك بابا إلاّ وطرقناه نبيع صورتنا الجديدة كي نحصل على المساعدات، حينها لم نبحث في هويّة الجهات التي نطلب منها المساعدة ولا عن جنسية الأموال ألتي تتدفّق شرقا وغربا، كنّا نقول لهم لن تخسروا في مراهنتكم علينا، انتظرونا قليلا سوف ترون المعجزة التي سنحقّقها وكيف سنصبح قلعة من قلاع الحرّية والديمقراطيّة والنّماء، لكن لمّا تبيّن عجزنا وعدم قدرتنا على تحقيق ما وعدنا به أنفسنا وكلّ العالم، عدنا نسير إلى الوراء، ولمّا عبرت لنا الجهات المانحة عن قلقها لما يحصل عندنا، قلنا لهم : « قفوا مكانكم هذا شأن سيادي لا دخل لكم فيه « ، وغيّرنا الوجهة نحو « الأشقّاء « ليكونوا بديلا عنهم لمساعدتنا على الخروج من ضائقتنا وخاصّة أنّهم لا يهتمّون كثيرا إن كنّا ديمقراطيّين أم لا، بل سيكونون سعداء لو تخلّينا عن «وجع الرأس» هذا ، لكن « لأشقائنا « شروط لا نقدر عليها بوضعنا الحالي، أقلّها الاصطفاف في المحاور والنّزاعات الإقليمية، وتصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون في إيطاليا حيث وصّف الوضع في تونس «حالة» كالحالة اللّيبية تستدعي التدخّل من الخارج لمساعدتها على تجاوز محنتها جاء في الوقت المناسب لتذكّرنا بأنّه لا صداقة ولا أخوّة بين الدّول قبل المصالح، و قد أثبت التاريخ أنّ تحصين الدّول من الوصاية الخارجيّة والاختراقات لا يكون باستعارة خطاب العنتريات و» اللاّءات « التي لم تغيّر شيئا في ميزان العلاقات بين الدّول، ذلك أنّ الأولويّة بالنّسبة إلينا هي إيقاف نزيف الجبهة الدّاخلية والإسراع في تنفيذ الإصلاحات الضّرورية والإسراع في إعادة الدّولة إلي وظيفتها الطّبيعية، لأنّه إذا كان هناك شبه إجماع حول قرارات 25 جويلية، فذلك لأنّ أغلب التّونسيات والتّونسيين رأوا فيها فرصة لوضع حدّ لحالة العبث التي تردّت فيها البلاد على جميع الأصعدة وإحياء روح الثورة التي انطفأت بفعل الانحراف بها عن أهدافها، حينها لم يكن في حسبان الكثيرين أن تتحوّل البلاد إلى حقل للتّجارب النظريّة والسياسيّة وعودة شبح الحكم الفردي والشّمولي، لأنّه حتّى البلدان

التي دخلت في مغامرات من ذاك النّوع ومن كانت تستند إلى خلفية فكريّة وإلى تنظيمات قوّية، لم تشهد رئيسا يتولّى لوحده التّفكير والكتابة والتّنفيذ دون أن ينصت لرأي صديق أو عدوّ ويناصب العداء لكلّ من يختلف معه.

وإن كان لا يمكن لأحد التّكهّن بنتائج هذا النّهج الضّبابي، إلاّ أنّ الرئيس قيس سعيد سوف لن يتحمّل لوحده مسؤوليّة تلك النّتائج، فالمسؤوليّة الأولى ستعود لتلك الأحزمة التي تشكلّت من حوله، لأنّ البعض من النّخب هي التي شجّعته على نسف كلّ قواعد اللّعبة وساعدته على الدّوس على الدستور والانفراد بالسّلطة والدّخول في مواجهة مع المؤسّسات المرجعيّة الدوليّة ممّا يعمّق عزلة البلاد ويجرّها نحو الانغلاق، ولولا موقف الأساتذة الجامعيّين وعمداء كلّيات الحقوق الذي أعاد للجامعة حيادها العلمي ونأى بها عن الاصطفاف السّياسي لفقدت هذه الأخيرة مصداقيّتها وسمعتها بين نظيراتها من جامعات العالم.
بعض المنظّمات تلعب بالنّار حين تصمت عن تطويع المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وعن تدخّل الرئيس لإزاحة أمين عام اتّحاد الفلاحين، فكان سيختصر الطريق على مشروع الرئيس للقضاء نهائيّا على استقلاليّة تلك المنظّمات أو حتّى إنهاء وجودها باعتبارأنّه ليس لها أي دور حسب تصوّراته. الاتّحاد العام التّونسي للشّغل هو الوحيد الذي أشعل الضّوء الأحمر تجاه هذا التّمشّي المحفوف بالمخاطر وبعث بارقة من الأمل في إمكانية تعديل المسار ، لكن إصرار المشرفين على بعض المنظّمات على توظيف رصيد منظّماتهم لتكريس مواقفهم الشخصية التي تتماهى وخلفياتهم السياسية قد يضعف هذه البارقة.

وكانت أكثر الأدوار خطورة هي تلك التي لعبها « قادة » بعض الأحزاب الصّغيرة لمساندتهم الرّئيس قيس سعيد مساندة مطلقة في ترسيخ منطق إقصاء الأحزاب التي يعتبرونها حجر عثرة في طريقهم، وفي تبنّي خطاب تقسيم الطّيف السّياسي وبين منتسب إلى 25 جويلية ومنتسب لما قبله ظنّا منهم بأنّ ذلك سيمكّنهم من التّموقع في صدارة المشهد ومشاركة الرئيس وضع حجر الأساس لجمهوريّته الجديدة، لكن بعد المرسوم عدد 30 الخاص بصياغة الدستور الجديد وبتنظيم حواره «الوطني»، تأكّدوا أنّ إقصاء الأحزاب ليس من قبيل الهزل في خطاب الرئيس وأنّه ركن من أركان «جمهوريّته الجديدة» حيث لم يمنح أيّ منهم ولو مقعد ملاحظ في أيّ لجنة من اللّجان التي نصّ عليها المرسوم، ولم يهتمّ لما سيصبحون عليه بعد أن وضعوا بيضهم كلّه في سلّته وانقطع عنهم خطّ الرّجعة للقفز إلى الضفّة الأخرى.
نفس الشّيء بالنسبة للأحزاب الكبرى المتصدّرة لاستطلاعات الرّأي، فبالرّغم من أنّها المستهدفة أكثر من غيرها بالإقصاء، فهي لم تتعلّم من تاريخها شيئا، لذلك لم تر ضرورة لمراجعة قراءتها للواقع وللقيام بنقد ذاتي والخوض في البدائل مكتفية بالتحوّط بأنصارها وخوض حروب المواقع لضمان وجودها في أيّ مناخ وبأيّ ثمن كان.

لذلك لا نستغرب حين تطلع علينا كلّ مرّة جهة ما من الخارج تطرح على نفسها مسؤوليّة علاج مصائبنا ، ذلك أنّنا لا نملك سوى أنصاف رؤى وأنصاف مواقف وأنصاف حلول والتي تكون أحيانا قاتلة..
رحمة ونورا على روحك شاعرنا الكبير عشت ومتّ غريبا كالأنبياء بين قوم لا يفقهون .... يقتلني نِصفُ الدفء. وَنِصفُ المَوقِفِ أكثر
يزنى القهر بنا. والدينُ الكاذِبُ. والفكرُ الكاذبُ...
والخبزُ الكاذبُ ... «مظفر النّواب»

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115