برج بابل: هل يحتاج الانتقال الديموقراطي إلى كرة القدم؟

بلغ العبث مداه، طفل مطارد من أجل غرامه يبحث عن ملاذ. تخذله جغرافيا محيط الملعب... يستجير، لا أعرف العوم. تعلّم العوم إن كنت تريد البقاء،

يغرق في الأوحال، ليس وحده عمر العبيدي من غرق في الأوحال. الكلّ غارق فيها. عمر العبيدي غرق مرّة واحدة، أما الآخرون فهم غارقون فيها كل يوم. يختزل هذا المشهد الدامي درجة العنف التي وصلنا إليها في الشارع كما في المؤسسات و الملاعب و غيرها من فضاءات التفاعل. هناك وحلٌ ما نعيشه جعل من مرحلة الانتقال الديموقراطي لا تستجيب بشكل كاف لإنتظارات الناس إلى الحدّ الذي جعل العديد يتساءلون ما حاجتنا إلى الديموقراطية؟ ولهذا يمكن للحقل الرياضي وحقل كرة القدم على وجه الخصوص أن يجعل الانتقال الديموقراطي في مأزق. العلاقة بين كرة القدم و الديموقراطية وثيقة جدا لأن كرة القدم هي التجسيد المثالي لمبادي الديموقراطية.

الوحل الكبير الذي لم نخرج منه هو هذه العداوة التي تستفحل مع الأيام بين الأمن ومجموعات الأولتراس ونرى مشهديته في الملعب و خارجه، في الواقعي وفي الافتراضي. عنف تحرّكه الهوية وعنف من أجل الشرف وعنف لا نستطيع فهمه بالقدر الكافي ولا نفهم التحولات السوسيولوجية المرافقة له. ولمّا ينبني العنف على هذه الوضعية فإننا لا نستطيع إيقافه. نستطيع إيقاف العنف أو التقليص منه بفهمه أكثر.

منذ بروز مجموعات الأولتراس في تونس والمشهد يتغير في المدارج وفي محيط الجمعية واللاعبين. مجموعات شبابية تبحث عن مكانة وعن دور في مجتمع تفقد فيه مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية جذوتها. لم تعد قادرة على الإغراء وعلى شدّ الانتباه. ما تقدّمه لا يستجيب لمتطلبات تنشئة جديدة تحتاج إلى لغة مغايرة وإلى مضمون مغاير وإلى ذات مختلفة. لقد انتقلنا من مقولة الإنتماء التقليدية إلى مقولة التجربة.

لم نفهم أن مقولة الجماهير المشاغبة لم تعد تؤدّي المعنى. لقد أفرغتها التحولات الاجتماعية من معناها. الوحل الكبير أننا لم نفهم إلى الآن أن الشغب قد تحول إلى أسلوب عيش في الملاعب وخارجها. تنشئة اجتماعية على أسس مغايرة تقودها الرغبة في التجريب و الرغبة في الاستقلالية و الفرادة و التحدي و اختبار الذات ، هذه المقولات هي من تعطي للمناصرة معنى لم يكن متاحا.

قد نبقى في الأوحال إذا لم نفهم أن العنف الذي يحيط بنا في الملاعب وفي غير الملاعب هو صورة من صور أزمة الدولة الراعية، هو فقدان الوسائط المجتمعية لفاعليتها حين يجد الفرد نفسه وحيدا يواجه الضغوطات التي تثقل كاهله. ضغوطات مجتمع استهلاكي، تنافسي إلى أقصى الحدود ودون ضوابط هذا الفرد غير القادر على تعريف ما يحيط به، فيكون عنيفا وبشكل عبثي لأنه غير محصّن، على هشاشة كبيرة وموجعة.

كيف نتصرف إزاء وضع مماثل؟
من السهل إغلاق المدارج أمام مرتاديها وكفى المؤمنين شرّ الكرّ والفرّ. لا أعتقد أن ذلك سيساعد على الخروج من الأوحال. الملاعب الممتلئة أقل خطرا. أين ستذهب هذه الشبيبة المغرمة بنواديها؟ أين ستعيش تجربتها؟ لمن ستصرف الطاقة النضالية إن لم يكن للنادي وللمجموعة؟ كلما أبعدنا مجموعات الأولتراس عن شغفها بكرة القدم تحوّل شغفها إلى مضامين أخرى وإلى أوحال أخرى. قد يكلفنا فتح كل أبواب الملاعب أمام المناصرين بعض العنف وبعض التجاوز ولكن في كل الظروف أقل وطأة وأقل خسارة من إبقائها خارج الملعب.
من السهل أيضا إدراج ما يفعله هؤلاء المناصرون ضمن ما يسمى شغب الملاعب، ومن اليسير أيضا إتباع سياسة العصا الغليظة تجاههم. ولكن سنبقى في الأوحال، لن نخرج أبدا. علينا إعادة تعريف معنى الشغب ومعنى المناصرة الجديدة ومعنى أن ترافق ناديك إلى أبعد الحدود وأن تكون فاعلا في مجموعة لها هويتها و لها طقوسها و لها منطقها في التعامل مع مجريات عالم كرة القدم. عندما نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار نكون قد بدأنا الخروج من الوحل. عندها نستطيع العمل على تجسير الفجوة بين كل الفاعلين في حقل كرة القدم في بلادنا وعندها أيضا نفتح المجال أمام مناخ مناسب لكرة قدم جميلة وممتعة وعندها كذلك يتراجع منسوب العنف المادي والرمزي إلى عتبة المسموح به والمتفق عليه.

كرة القدم جزء من الانتقال الديموقراطي في تونس، وهي مؤشر يمكن أن نقيس من خلاله صعوبات هذا الانتقال. كما يمكن الخروج من مأزق الانتقال الديموقراطي الآن بحوكمة جديدة للحقل الرياضي بصورة عامة وبحقل كرة القدم على وجه الخصوص. لقد صاحبت كرة القدم كلعبة نشأة الديموقراطية في الغرب وكانت مثل البرلمان يحتاجها الناس من أجل التحكم أكثر في العنف الدامي لألعاب القرون الوسطى. بمجرد نشأة كرة القدم الحديثة بدأ التفكير في مقولات الجدارة والتنافس الخاضع للقواعد وللامتياز الفردي والجماعي و للعدالة و المساواة ومجتمع المشهد. هذه كلها عناصر تشكل الديموقراطية كأسلوب حياة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115