الرجعيّون يخافون الحقيقة لأنّهم يعملون دائما على إخفاء «حقيقتهم» البشعة، معتمدين كافة أشكال الكذب والنفاق والتزوير إلى جانب القتل. ومن هنا فإنهم يحاربون بكافة الأساليب الهمجية كلّ من تصدح/يصدح بالحقيقة وكل من تدافع/يدافع عنها وتسعى/يسعى إلى إيصالها إلى غالبية الناس. ومن بين أنصار الحقيقة صحافيات شريفات وصحافيون شرفاء في مختلف أرجاء العالم جعلوا من قول الحقيقة أو كشفها أو الإصداع بها قضيّتهم المركزية. وهو ما جعلهم في مرمى نيران أعداء الحقيقة.
إن شيرين أبو عاقلة، ابنة القدس، ابنة فلسطين، هي واحدة من بين «رسل الحقيقة» في فلسطين والوطن العربي والعالم. إن ما ميّزها طيلة ربع قرن من الكفاح الإعلامي، هو أنها لم تغرق في الصراعات الفلسطينية/الفلسطينية الكثيرة والمعقّدة والمحبطة أحيانا بالنسبة إلى عدد كبير من الناس، ممن يفتقدون إلى طول النفس وإلى رؤية استراتيجية. لقد اختارت التركيز على الجوهر، الأساسي، الرئيسي وجعلت منه قضية القضايا وأقصد الاحتلال الصهيوني الغاشم لتعرّي جرائمه أمام العالم وتسهم في عزله بكلّ ما أوتيت من قوة الكلمة والصورة، فكانت كلماتها وصورها رصاصا يصيب العدو في مقتل، كما تصيبه رصاصة الفدائي.
لقد هزّ اغتيال شيرين أبو عاقلة العالم. وهذا ليس بالأمر الغريب. الشريفات والشرفاء وحدهن/هم يهززن/يهزّون العالم في حياتهن/كما في استشهادهن/هم أو مماتهن/هم. إن اللواتي/الذين يبقين/يبقون على نفس المبدأ طوال حياتهن/هم، دون أن تغريهن/هم المصالح الشخصية أو دون أن ينال منهن/هم ترهيب الأعداء، ليسوا كثيرات/ين، خاصّة في مجال الإعلام الذي تتحكم في شرايينه كبريات اللوبيات والمافيات والاحتكارات. فهن/هم يحتجن/يحتاجون إلى قوّة الجبابرة حتّى يحاربن/ يحاربوا ما في داخلهم من ضعف وخوف وانتهازية قبل أن يحاربن/يحاربوا العدو الهاجم عليهن/هم. ومن الواضح أن شيرين أبو عاقلة سيذكرها التاريخ كواحدة من اللواتي/الذين ثبتن/ثبتوا إلى آخر نفس في حياتهن/حياتهم في الدفاع عن القضية. لقد ماتت من أجل أن يحيا الآخرون. كان العدوّ، حسب بعض المعلومات المنشورة، يخطط لارتكاب مجزرة في مخيم جينين، فتفطّن إلى حضورها، إلى أنّها كانت تتأهب لنقل الحقيقة إلى العالم، فدفعت الثمن. ويا له من ثمن.
ما أعظم أن يفدي الإنسان بنات/بني جلدته بحياته لكي ينعمن/ينعموا، بالحياة والحرية.
قرأت كلاما عن شيرين أبو عاقلة فازددت اقتناعا بأن الشهيدة لم تهب حياتها للقضية إلّا لأنّ حياتها بالكامل هيّأتها لذلك. كتب د. كفاح أبو هنود معلومات عنها حريّة بأن أنقلها إلى القارئات/القرّاء ليتمعّنوا فيها:
«البيت الذي تسكنه شيرين أبو عاقلة بيت متواضع في أحياء القدس علما بأنّها تعيش وحيدة بلا زوج وبلا أولاد وتستطيع من خلال راتبها أن تسكن في قصر، ولأنها تمتلك الجنسية الأمريكية تستطيع أن تترك فلسطين وتسكن في مكان فاخر.
هل تعلم بأن شيرين أبو عاقلة كانت تدعم الإفطارات الرمضانية لذوي الاحتياجات الخاصة.
هل تعلم بأنها كانت تعالج الفقراء والمحتاجين على نفقتها الخاصة.
وهل تعلم بأنها كانت مرابطة طيلة شهر رمضان في المسجد الأقصى.
شيرين لم تكن صحفية بقدر ما كانت مقاومة للظلم».
افهمن/افهموا لماذا وهبت هذه السيدة حياتها فداء لشعبها ووطنها ولماذا كانت جنازتها من أعظم الجنازات في تاريخ فلسطين. كانت استفتاء شعبيا حقيقيا لصالح النضال والكلمة الحرة والحقيقة ورفض الاحتلال والإصرار على مواصلة المقاومة.
لا فصل بين حياتك الخاصة وسلوكك العام. فالحياة كلّها التزام أو لا تكون.
طوبى لك يا قديسة فلسطين ويا ملاكها. طوبى لك وأنت تستشهدين في جينين عاصمة المقاومة. طوبى لك وأنت على مدار ثلاثة أيام، وأنت في عالم الشهيدات والشهداء، تواصلين، رغم أنف العدو، القيام بمهمتك كمراسلة فلسطين، العالم كله ينظر إليها من خلال استشهادك.
غادرتنا «شهيدة الحقيقة»، شيرين أبو عاقلة، جسدا، لكنّ أثرها سيبقى بين بنات/أبناء، شعبها وأمتها والإنسانية التقدمية جمعاء إلى أبد الآبدين. إن أرض فلسطين الولاّدة، ستنجب ألف شيرين أخرى، يأخذن المشعل ويمرّرنه من جيل إلى جيل حتى تحرير فلسطين، كامل فلسطين، دون التنازل عن شبر واحد منها. إن الكيان الصهيوني، الغاصب، العنصري، الفاشي، إلى زوال، وإن فلسطين عائدة طال الزمان أو قصر إلى شعبها، لأن الوحشية والهمجية إلى زوال، ولن تبقى على وجه الأرض غير النّبتة الطيبة، غير البشر الذين يتحابّون ويتعايشون و يتعاونون ويحافظون على أمّهم الأرض لتسلم من أعداء الإنسانية والطبيعة الذين يعذّبون ويقتّلون ويدمّرون ويخرّبون ويتوحّشون من أجل الرّبح.
إن التاريخ، سيسجّل أنّ الصهاينة، مثلهم مثل حماتهم الامبرياليين الأمريكان والغربيين عامة، من أبشع الوحوش التي شهدتها الإنسانية في تاريخها، وأنّ شعب فلسطين، شعب الجبابرة، كان له شرف مقاومة هؤلاء الوحوش وهزمهم.
إنّني لا أؤمن بالحقائق المطلقة، فالحقيقة دائما نسبية، لكنّني على يقين، بشكل مطلق، بأنّ شعب الجبابرة سيحقق النّصر على الصهاينة.
إنّ طائر الفينق لا يموت، فكلّما ظنّ الصهاينة والامبرياليّون والرجعيّون المُطبّعون أنّه احترق وانتهى ونهض من رماده ليولد من جديد بإصرار أقوى على الانتصار.
إنّ أجمل ما تهديه/ يهديه شهيدة/شهيد إلى شعبها/ـه هو أن تسقيه/يسقيه جرعة جديدة من القوة ومن الإصرار على المقاومة والمضي قدما.
وهو ما قامت به شهيدة الحقيقة شيرين أبو عاقلة، ابنة القدس وابنة فلسطين من النّهر إلى البحر.
صدق شهيد الحرية، رفيقي نبيل بركاتي، ابن حزب العمال، الذي صمد ذات شهر ماي من عام 1987 تحت التعذيب حتّى الموت، حين قال:
«الحياة تطول أو تقصر، تلك أمور نسبية، المهمّ هو الفعل وما يتركه الإنسان من أثر».
عشت شيرين وعاش نبيل وكل الشهيدات والشهداء في الأرض.