في تقلب الدول العربية بين قيم الحداثة والموروث السائد: أيّها العرب متى ستدركون أنّ المرأة هي فعلا إنسان؟

صرخة توجّهها المرأة العربية إلى أهل القرار ملوكا كانوا أو رؤساء أو شيوخا أو أئمّة أو أولياء أمر.. أجل هي صرخة حتى توقف الزحف إلى الوراء، والدخول سريعا إلى كهوف مظلمة لا أنفراج بعدها.. في الحقيقة ، صرخة المرأة عربية تتوزّع إلى أصناف:

• فمنها الصرخة « الأنين» التي لا تكاد تنبس بها الشفاه، وذلك لأنّ جسد المرأة هزيل، وأفناه الألم والتعب، ولأنّ المسلّمات التي غذّوها بها كتمت أنفاس فكرها الحيّ. و مع هذا الصنف يكاد ينقطع الرجاء، وتكاد روحها تستسلم لجلاّدها.. فانغرس في وجدانها أنّها المخلوق لأجل الرجل الذكر، وأنّها حمّالة لنقمة إلهية منذ لحظة تحالف أمّها حوّاء مع إبليس.. ونتيجة لذلك عليها أن تتوارى عن الأعين.. وإن خرجت فهي كالشبح المتحرّك.. وبقدر تواريها تضمن رضا سيدها الذي يكفل لها رضا ربّها.. هذه المرأة ضعيفة وتحتضر، وحتى إذا عزم أسيادها على أن يظهروا في صورة حداثية ينظمون الندوات للحديث عنها وهي غائبة ويعقدون المؤتمرات التي لا يحضرها غيرهم، وهم في جميع ما يفعلون يتوهّمون أنّهم يصدّرون صورة للمرأة في بلدانهم تبدو فيها في أحسن حال ، وأنّهم ارتضوا لها

البيوت المغلّقة جنّة، وأنّ حبسها هو حفظ لها لأنّها « درّة مكنونة». فإذا بوعيها يصاب بغيبوبة، وإذا بها تتلذّذ لعبوديتها. وتُصَمُّ الآذان وتقرع الطبول في وجه كلّ دعوة إلى الحرية والمساواة، تُمنع من دخول ديارهم وقاية لهذا الركام من البشر الذي يقتات منه الرجال ليغذّوا فحولتهم.. فتصير بذلك جميع أحكام الشريعة مقدّسة، وقدرا أراده الله للمرأة « عسى أن تكفّر ولو قليلا عن ذنب أمّها حواء في غواية آدم» . ولا تتوجّسوا شرّا فهذا الصنف من النساء» المتحرّكات» لن ينقرض وسيلدن بنات يصيبهنّ الاختناق منذ صرخة الحياة

الأولى... فليس غريبا أن يُعيد هؤلاء الرجال، بعد أن أصيبوا بداء التفكير، النظر إن كانت المرأة إنسان حقّا أم لا.. وليست هي بالهجينة تلك الفتاوى التي يتحفنا بها علماؤهم ودعاتهم ، والتي يؤكّدون في كلّ مرّة أنّ المرأة متاع خاصّ، وهبة من الله حبا بها الرجل حتى يخفّف عن نفسه عبء الحياة الدنيا.. فأفتوا في ضوابط لباس المراة وزينتها.. واعتبروا المحادثات بين النساء والرجال في المواقع الاجتماعية «مداخل الشيطان، وكثيرا ما تكون هي المنزلق الأول للمرأة، وشرار الخلق يأخذونها بداية أذيتهم للنساء».. وتعطّل تفكيرهم في قيادة المرأة للسيارة.... وجميع هذه الفتاوى تصبّ في مسألة واحدة، تتمثّل في العجز عن إقصاء المرأة ممّا اعتبروه مظهرا من مظاهر الحداثة، وخاصّة الغزو التكنولوجي في بلدانهم تجاه قصور تشريعاتهم عن مسايرة ركب الحداثة، فإذا بهم مثل شهريار بقوا معلّقين بين السماء والأرض.. وإذا بجسد المرأة المحتضر يتململ ليتحرّك في أرض يجهلها ، وإذا به من الهالكين..
أمام هذا الصنف نكاد نكون من اليائسين، و لا حولا لنا ولا قوّة، و ما دامت المرأة متلذّذة بهذا الوضع فقد انقطعت معها حبائل الآمال.

• ومن صرخات المرأة تلك التي مُنِحت حظّ الولادة في أرض كريمة في العطاء الفكري، هي أرض وفّقت فيها النساء عبر التاريخ فبرزن بقوّتهنّ وقدرتهنّ على الفعل.. صحيح أنّ الحديث عن مدى توفيقهنّ يختلف من بلد إلى آخر، بل إنّك تجد تفاوتا كبيرا بين نساء الوطن الواحد، لكن هناك اتجاه عام يميّزهنّ، ونقف على طبيعة أنثوية خاصة بهنّ: هي طبيعة الرفض والقدرة على المقارنة التي ترنو إلى أن تناظر المرأة بالرجل.. وصحيح أنّ المرأة في هذه الجهات لم تبلغ المساواة التامة بينها وبين الرجل، مساواة في الإنسانية تحطّم الجدران التي بنتها مسلّمات تَكلَّسَ في الأذهان أنّها مقدّسة.. صحيح أنّ الطريق مليئة بالأشواك والأحجار، وأن تحت كلّ حجر أفعى.. لكن قدرة المرأة في هذه البلدان ووعيها يؤهّلانها لأن يشتدّ عودها فتكون القادرة لوحدها حتى تذيب الجليد وتصلّب الأحجار... علينا أن نذكّر أنّ قوّة المرأة في هذه الأحوال لا تكون سوى مكتسبة، وبحسب جرأتها على المواجهة. وفي هذه المسألة نحن متفائلات، لأنّنا عندما أجبرنا على المواجهة في ذات ربيع من سنة 2012، عندما شعرنا بأنّ مكتسباتنا ستضرب في الصميم بإدراج الشريعة مصدرا

للتشريع في الدستور الجديد، شققنا في البحر طريقا، وسقطنا بفؤوسنا هدما لمصطلح ظلّ الجميع، ومنذ قرون يتعبّدون به على أنّه المقدّس الأعلى، وكان لنا الفضل، نحن النساء، في تهديم هذا الصرح الذي بانت تفاهته... انتصرنا على هذا الغول في معركة الشريعة، ولكن علينا أن ننتصر عليه في معركة الحداثة. لأنّ تونس لن تدخل الحداثة إلا بالمساواة التامة بين المرأة والرجل.
هي مساواة لا تقبل تنازلا، مساواة لا تدخل في نقاش أو جدال.. مساواة تقرّ بأنّ لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل والفكر.. وهذه هي المساواة التي نريد.

الطريق أيضا ما تزال طويلة وشاقّة ومحفوفة بمخاطر الانزلاقات ، كما يقولون، لكنّ التعب فيها لذيذ والشقاء ممتع، لأنّه يقرّب المرأة من المرأة ويستهوي الرجل الحرّ في الاقتراب منّا والعمل معا لصالح هذه الأمّة الصغيرة في رقعتها لكنّها كبيرة في إنجازاتها الفكرية والاجتماعية. جاحد من ينكر هذا، ألا ننعم الآن بما وفّره لنا آباؤنا ، نحن النساء والرجال، من قوانين في مجلّة الأحوال الشخصية؟ أليست تلك نقلة نوعية وفّرت لنا التميّز عن كثير من الدول العربية والغربية أيضا؟ فهذه لذّة، وعندما شعرنا بأنّ مكاسبنا مهدّدة ألم ننتفض انتفاضة إنسان واحد؟ ألم نشعر بلذّة النضال المنتج ونحن في حرّ شهر أوت 2013؟ وتلك لذّة، نأمل أن يشعر بها غيرنا من العرب.. ألم تخرج فينا نحن النساء فتوى بتحريم الزواج منّا؟ لأنّ شخصيتنا قويّة؟ وفي تلك الفتوى لذّة شعر بها الرجل قبل المرأة، لأنّ التونسية صارت إنسانا ومستعصية عن أن تلجم بمقود.
واليوم، نحن ،نساء تونس ورجالها، نعي جيّدا أنّ كثيرا من القوانين في مجلّة الأحوال الشخصية هي في حاجة إلى تنقيح حتى نبلغ المساواة التامّة تنظيرا وتطبيقا ، مقاربة وممارسة واقتناعا. ولبلوغ ذلك نحتاج إلى توفير مادّة قانونية تسمح لنا بالعمل، وحتى تتوفّر هذه المادّة أرى لزاما أن نطالب بأمرين عاجلين حتى نوفّر المناخ الأفضل لبناء هذا المجتمع:

• الأمر العاجل الأوّل:
مطالبون بالدعوة الملحّة وبعدم التراخي حتى تلائم الحكومة القوانين بمبادئ الدستور، وما لم يتمّ ذلك فإنّ كثيرا من القوانين ستظلّ عرجاء، وسيظلّ الدستور بمثابة المولود المشوّه. كما نحن مطالبون بتعقّب كلّ جزئية يمكن أن تفتح أبوابا من التأويلات ذهب في اعتقادنا أنّنا تجاوزناها، وآخذ مثالا على ذلك:
افتحوا بوابة رئاسة الحكومة، نافذة المجلس الإسلامي الأعلى تجدون مشمولاته مضبوطة فيما يلي:

• « إبداء الرأي فيها ، أي القوانين ، في اتجاه تنفيذ أحكام الفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن تونس جمهورية دينها الإسلام.» وتلاحظون انزلاق رئاسة الحكومة في التأويل، واصطفافها إلى جانب الإسلاميين في اعتبارها اقتران لفظ الإسلام بالدولة.

• «إبداء الرأي فيما يتعلق بالنواحي الاجتماعية والفقهية، خصوصا منها ما يهم الأحوال الشخصية وإحكام الأسرة حفاظا عليها من التفسخ والانغلاق وتمكينا لها من القيام بدورها في تربية الأبناء ورعايتهم وحسن إعدادهم على أكمل الوجوه» . وعلى هذا الأساس فإنّ مجلّة الأحوال الشخصية هي في رعاية المجلس.

• ...« إبداء الرأي في كل ما يتعلق ببرامج التعليم في الجامعة الزيتونية وبرامج مادة التربية الدينية في سائر المعاهد «. وإذن فإنّ إصلاح التعليم ليس بأيدي الخبراء بقدر ما هو في حماية المجلس.

• «التصرف في موارد صندوق الزكاة بعد جمعها وتوزيعها بحسب الضوابط الشرعية عن طريق هيئة وطنية للتسيير يرأسها رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، إلى جانب الهيئات الجهوية للتسيير التي يمثل فيها المجلس الإسلامي الأعلى في خطة نائب رئيس». أليس في هذا البند ما يؤكّد أنّ صندوق الزكاة قد أحدثته رئاسة الحكومة وأنّه يعود بالنظر تسييرا وميزانية إليه هو دون غيره؟ كأنّنا في دولة داخل دولة.
تستدعي هذه المشمولات التي أقرّتها رئاسة الحكومة للمجلس الإسلامي الأعلى أسئلة كثيرة، نجملها فيما يلي: هل تمّ تنقيح مشمولات المجلس بعد الثورة؟ ومتى ستراجع القوانين التأسيسية المتعارضة مع بنود الدستور؟ أليس من الأفضل تجميد مثل هذه المؤسسات التي تنعكس سلبا على الحياة الاجتماعية والسياسية في انتظار تنقيح القوانين؟ بل هي ردّة مجسّمة في رجوع الحكومة على عقبيها وفي تقلّبها بين بنود الدستور والقوانين السابقة له. والأخطر من كلّ ما ذكرنا، أنّ للمجلس الإسلامي الأعلى صلاحيات تتجاوز صلاحيات الدولة بأكملها، حتى كأنّه رئاسة حكومة ومجلس نواب معا. ونزداد قلقا عندما نتفطّن إلى أنّ هذه المشمولات تمنح للمجلس الفرصة في أن يبني مشروعا إسلاميّا ويحطّم مشروعنا الاجتماعي برمّته. والغريب أنّ الحكومة ساكتة، بل هي راضية مرضية لمثل هذه القوانين التي توشّح بها بوابتها.

• الأمر العاجل الثاني:
فيمكن أن أدرجه تحت عنوان ترشيد السياسة الديبلوماسية.
وليس المشغل ببعيد إذا وقفت عند حرص الدولة، البليغ، على أن تظهر موالية للسياسة العربية الخارجية، وفي إمضائها على اتفاقيات قد تتضارب في مجملها مع ما أبانه الدستور. وهنا نتساءل، إن كان أهل السياسة عندنا مقتنعين في اعتبار الدستور شريعة هذا المجتمع، أم إنّه صيغ ليظلّ لوحة زيتية نعلّقها على جدران الوزارات لا غير. قد لا يتسع المجال لمزيد من التحليل، لكن أكتفي بالبيان أنّ جلّ الاتفاقيات العربية تسعى إلى إيهام نفسها وإيهام غيرها أنّها في صلب الحداثة باتفاقياتها « العربية الإسلامية». ولكن ما العمل عندما يعلن الجهاز الرسمي للدولة عن عقيدته ؟ ألا نقف فيه على تجسيم لتقلّب الدول العربية بين قيم الحداثة والموروث السائد؟ وإلاّ بم نفسّر هذا الخوف من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واستبداله بإعلان آخر أمضت عليه الدول العربية في 1990 وأسمته « الإعلان الإسلامي

لحقوق الإنسان»؟ أمضت عليه تونس بالرغم من تعارض بنوده فيما يخصّ المرأة مع بنود الدستور آنذاك ومع أحكام مجلّة الأحوال الشخصيّة. وبالرغم من مجهودات الجامعة العربية في تنقيح هذا الإعلان ونسخه بالميثاق العربي لحقوق الإنسان سنة 1997 فإنّ هذه الدول لم ترض به وقامت بفسخه واستبداله بآخر سنة 2004. والغريب مرّة أخرى أن تمضي تونس و دون تفكير أو تحفّظ على مصير شعبها حتى وإن لعبت بهذه القوانين الأهواء المتناقضة، وخاصّة تلك التي تتعلّق بالمرأة.
أوحى إلينا اليوم العالمي للمرأة بهذه القضايا، وهي تبيّن أنّها مسائل تندرج في الشأن الاجتماعي، وتؤكّد في الوقت نفسه أنّ تمكين المرأة بل ومساواتها بالرجل ليس شأنا نسويا بل هي مسألة تندرج في الجسم الاجتماعي برمّته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115