نحن نبغض الفنون والعلوم ونكره الفكر وكلّ إعمال للعقل وكلّ تطلّع وكلّ خيال. نحن نخاف الشكّ ونرفض الحيرة والسؤال. نحن أمّة تكره الكتاب. تحبّ الخرافة وتعشق ما أتاه السلف الصالح والطالح. ها نحن اليوم نحيا في الأنفاق. لا نرى، لا نسمع، لا نعي ما كان حولنا من تطوّر ومن حياة. قلوبنا موصدة. عيوننا عليها غشاء...
رغم ما نحن فيه من جهل ومن رداءة، ترانا نكابر. نفاخر. تسكننا نرجسيّة. فينا ريّاء لا يسعه أرض ولا يحدّه أفق. قتل الريّاء العرب. ها هم كلّهم يعتقدون أنّهم خير أمّة أخرجت للناس. جنسهم هو الأرقى ودينهم هو الأحقّ ولغتهم هي البيان الذي ليس بعده بيان. الكلّ يؤكّد أنّنا أمّة المجد والعزّة والحضارة. أنّنا على صواب كبير ولسنا في حاجة إلى أحد...
خيّل للعرب أنّهم أفضل البريّة فانتفخوا كالضفادع صلفا واختيالا. سكنتهم هلوسة وشدّتهم شبهات كثيرة. خوفا، عضّوا على ما كان لهم من أثر وموروث. غلّقوا الأبواب وسدّوا السبل. منعوا كلّ تغيير. حرّموا كلّ تفكير وتجديد.
اعتقد العرب أنّ البشر جميعا لهم حاسدون وأنّ الأمم كلّها تضمر لهم عداءا وشرّا. العالم كلّه يغار من العرب لما كان للعرب من تاريخ ومن إسلام. لما كان لهم من كتاب لبيب، عظيم. العالم كلّه يكره أمّة الإسلام بسبب ما منّه الله على أمّة الإسلام من كتاب عزيز، عظيم الشأن.
إن قامت فتنة في العراق فهي مناورة دبّرها أعداء الإسلام. إن عثرت بغلة في الحجاز فذاك من صنيع الكفّار. إن ضرب الجوع أهل اليمن، إن غزا العراق الكويت، إن اشتعلت نار في لبنان، إن قامت ثورة في تونس... فكلّها مؤامرات دبّرها أعداء الإسلام لضرب أمّة الإسلام، لزعزعة أرض العروبة والإسلام.
نحن أمّة ضحيّة. دوما كان العرب أمّة ضحيّة. نحن دوما محلّ مكائد اليهود والنصارى والأمريكان. محلّ غدر العلمانيين والشيوعيين والمثليين وغيرهم من الكفّار. نحن ندفع ثمن ما حضينا به من دين حنيف ومن قرآن ليس له مثيل في الأرض وفي السماوات... ذاك قدرنا في الأرض. تلك مشيئة السماء ولا مردّ لمشيئة السماء.
مثل هذا الطرح المجنون تلقاه في كلّ بلاد الإسلام. تلقاه عند الكثير من المثقّفين وعند الأئمّة وجموع الناسّ. تسمعه خاصّة يتكرّر في المساجد وفي وسائل الإعلام. يرفعه الناسّ عاليّا كلّما شدّتهم أزمة أو مستّهم أكدار. هي اليوم «استعاذة» لتحصين الذّات، للتضرّع، لدعوة السماء. نقولها ترويحا عن النفس. صدى لما كان فينا من عجز ومن هوان...
إن عارضت الناس والرأي السائد وقلت إنّ الجهل المتمكّن هو السبب في ما نحياه من تخلّف ومن تفكّك ومن خراب. إن عارضت الشعب ورفضت الغيب والأقدار وقلت إن تدخّل الغرب والأمريكان سببه ما نحمله من جهل وما نأتيه من عبث ومن سواد. إن قلت للناسّ عاليّا إنّنا نحن السبب في ما نراه من فتن وفي ما نحياه من ذلّ ومن خراب ولا دخل للغرب، لليهود، للأمريكان... قالوا أنت لا تدرك ما يجري من دسائس ولا تعلم ما يدبّر من مكائد. قالوا أنت صبيّ غرّ، لا تعرف ما يضمره الغرب للمسلمين من عداء. قالوا أنت من أنصار الغرب ومن حماة الاستعمار. قالوا أنت من أعداء العروبة والإسلام. ثمّ يخرجون لك من حيث لا تدري نصّ آية قديمة غير صالحة لهذا الزمان:»ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم.» انتهى اليوم زمن الملّة. في القرية الكونيّة، يحمل الكلّ بعضه البعض ولا فرق بين اليهود والمسلمين والنصارى إلا بما بذل كلّ من جهد وبما أتى من إحسان.
في أرض العرب، ليس الناس كلّهم في بؤس، في شقاء. هناك فئة قليلة تحيا في يسر ورفاه. لها في الأرض حظوة وتنعم بالرخاء. في حين ترى الدهماء تعاني البؤس والمرض، يطحنها الفقر والجهل وعسر الأيّام، ترى أهل الحلّ والعقد، أيّامهم هناء وعيشهم سلوى ورفاه...
«ما العجب في هذا وقد فضّل الله بعضكم على بعض في الرزق وهو صاحب الملك يعطي رزقه لمن يشاء؟ فلماذا إشعال الفتن ولماذا بثّ الأحقاد وكذلك شاءت الأقدار وكذلك ابتغت السماء؟ من يرفض القضاء والقدر ولا يرضى بما يفعله صاحب العرش من فقر وثراء واختلاف في الأرزاق هو كافر بالله ولا يؤمن بما جاء في الكتاب.» يقول الأئمّة وشيوخ الإسلام، صباحا، مساءا...
منذ الزمن الغابر، يسعى رجال الدين جاهدين لعرقلة كلّ تغيير في عيش الناس، كلّ مسّ بما يراه الناسّ. لا يرضى الأئمة وشيوخ الإسلام مراجعة ما أتاه السلف ولا تجديد ما خطّه الأوّلون من نحو وما تركوه من ميراث. «كلّ جديد بدعة وكلّ بدعة في النار.» فويل للذين يريدون تغييرا أو يبتغون مراجعة. كلام الله صالح لكلّ زمان ومكان. لا يمسّه انس ولا جانّ. لا يمسّه إلّا المطهّرون وأولو الألباب...
في أرض العرب، توقّفت عقارب الساعة. انتهى عندنا الزمان. أسدل على الحياة الستار. توقّفت فينا ومن حولنا الحياة. نحن اليوم في الأرض أحجار، أصنام. لا سبيل عندنا إلى النظر، إلى المراجعة، إلى الكلام. ألم يدع حجّة الإسلام، الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي صراحة في عنوان كتابه إلى «تلجيم العوامّ عن علم الكلام»... لا كلام للعامةّ ولا نظر ولا تفكير للناسّ. الفكر كفر وكلّ إعمال للعقل مضيّع للجهد، مفسد للناسّ. «لا تفكير مع الله» يقول الأئمة والدهماء.
لدى أولي الأمر ولدى العوامّ، الله وحده هو المدبّر والعليم والحكيم وهو وحده الرازق الرزّاق. فلا تشغل بالك أيّها المسلم ودع ربّك يتدبّر وهو خير المتدبّرين. يقول تعالى: «لو أنّكم توكلتم على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا».
«ماذا أنت كاتب يا شيحة؟ كم من واحد أغرّه الشيطان فحشر أنفه في الدين فلعنه الناسّ وكفّروه وضاع في غياهب الظلام؟ ما لك تطرق أبوابا موصدة وتكتب في قضايا منتهيّة؟ دعك من هذا يا صاحبي واكتب في هنّوف إن شئت وفي ما كان لك من حبيب ومن ذكريّات. دعك من الدين فالدين منزلق خطير وناره حاميّة... ثم من أين لك الدين وأنت به غير ملمّ...؟»
صحيح. أنت محقّ يا صاحبي. في ما أرى، أخطأت السبيل. أظنّني أقحمت نفسي في منزلقات حاميّة. أنا أعلم أن لا نفع من كلامي يرجى ولن أغيّر شيئا ممّا في العرب تمكّن وأصبح غريزة وطباعا. لا نفع في ما كتبته. هذا صراخ في الفيافي. هذا رأي عجوز أضاع صوابه في آخر الزمان...
«ثمّ هل تعلم يا شيحة أنّ كتاباتك لن يقرأها أحد وأنّ نصوصك لن تغيّر وإن ذرّة ممّا استقرّ من الجبال؟ مهما فعلت، مهما حبّرت، مهما أتيت من صراخ لن تقدر على تغيير ما انتشر في العرب من نظر ولا لما هم فيه من نحو وصراط. لن تقدر على مواجهة آلاف الأئمّة وما يلوكونه فوق المنابر صباحا، مساءا».
قولك صواب يا صاحبي. كيف لصوتيّ أن يرى النور وهذا ظلام يلفّ الأرض والسموات؟ كيف لصوتيّ أن يكون وهذه المصادح في الأرجاء تزمجر ليلا، نهارا؟ أعلم أنّي ضعيف، عاجز. أعلم أنّي لن أقدر على صدّ الأبواق ومواجهة أهل المنابر. أعلم أنّنا أمّة الحجر والأصنام...
هل أحذف ما كتبت وأجنّب نفسي اللعنة وسوء العقاب؟ هل أراجع النصّ وأبدّل مضمونه وأعدّل فحواه؟ يجب أن أراجع ما كتبت. في ما كتبته، هناك تجاوز. في ما قلته، لامست الخطوط الحمراء...
من تجاوز عمره السبعين، عليه أن يقول كلاما رصينا، متداولا بين الناسّ. من شاب رأسه، عليه أن يسوّي لسانه ويعود إلى ربّه ويتّبع خطى السلف وصراط الأجداد. في ما أرى، أنا خرجت عن الصراط وخالفت السلف والأجداد. أظنّني لامست المحظورات. أنا مجنون هزّه الخيال...
ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ هل ألغيّ نصّي وأتوب لربّي وأرضي الأئمّة والناسّ؟ لا أدري ما يجب أن أفعله الآن. أنا في أمريّ محتار...
دعني أنظر. دعني أفكّر... قرّرت. لن أغيّر شيئا من نصّي. لن أمسّ مفردة واحدة. لا شأن لي بالأئمّة ولا بما يقوله الناس. هذا رأيي أسوقه كما جاء دون خشية، دون حساب...
انتهى