حديث الفرد: في شهر الصيام ...

نحن في شهر الصيام. في شهر الصيام، ينقلب عيش الناس. يصبح الليل نهارا والنهار ظلاما. في النهار، تلقى الناس في ضياع وقد أقعدهم جوع وعطش وإرهاق.

في الليل، ترى الناسّ خفافيش تسري بين الشوارع والأسواق. تتدافع بين المقاهي والساحات. طوال الشهر، تتوقّف، في أرض العرب، الحياة. لا شغل ولا إنتاج ولا حياة في شهر الصيام...

رغم ما كان من قعود ومن قتل للحياة، يقول الأئمّة والكثير من الناس، العقلاء منهم والسفهاء، إنّ شهر الصيام شهر كريم، مبارك. هو شهر الصبر والكدّ والجهاد. إلى غير ذلك من كذب الكلام.
تعودت والناس من حولي، منذ سنين، منذ عقود، على ما يجري في شهر الصيام من خمول ومن سواد. تعوّدت على ما يجري في أرض المسلمين، في الشهر وفي غير الشهر، من قتل للجهد، من هتك للزمان. تعوّدت على ما يقوله رجال الدين طوال الأيّام من كذب ومن نفاق. طوال الأشهر، أسمع نفس الأراجيف تعاد. كلّ يوم، ألقى نفس الأباطيل تتكرّر في المساجد، في البيوت، في كلّ وسائل الإعلام...

يقول رجال الدين: «صوموا تصحّوا.» أنا أقول: ما النفع من صحّة لا تنهض الإنسان؟ لا تحمله على الكدّ، على البذل، على العطاء؟ ما النفع من الصيام وجلّ العرب في جوع وعطش طوال العقود، منذ أوّل الزمان؟
لمً لا يجعل الأئمّة الصوم مقدّرا لأوليّ الأمر وقد امتلأت بطونهم شحما وبطلانا؟ ألا يرى الأئمّة أنّ في صيام الشهر إفسادا للعيش وللبيوت خرابا؟ ألا يرى أهل الدين أنّ الصيام منهك للإنسان؟ ألا يرى حرّاس الإسلام أنّ كثرة العبادات تشغل الفكر، تعرقل السعي، تعطّل الحياة؟
لا يهمّ رجال الدين ما كان في الشهر من كسل ومن إرباك. لا يهمّهم تردّي حال الأمّة ولا ما انتشر فيها من فقر ومن جهالة. لا شأن لهم بما يحياه المسلمون من تخلّف ومن خسران. متى كان شأن الأمّة من شؤون أوليّ الأمر في أرض الإسلام؟ شأن أولي الأمر في بلاد الإسلام غنم ما كان من فاكهة ولهف ما كان من نعيم ومن طيّبات.

حتّى ينعم أولو الأمر، ها هم يرتهنون عقول الناس. يسطون على قلوب الناسّ. يحوّلون البصر. يغطّون الشمس بالغربال. دوما في زور. دوما في نفاق... حسب ما كان لهم من مصالح ومن أهواء، يحدّدون الحلال والحرام. من سوف يدخل الجنّة ومن سوف يدخل النار.
للمسك برقاب الناسّ، يرى الأئمّة ورجال الدين يرهبون الناسّ. يذكّرونهم ليلا، نهارا بما جاء في السور من وعيد شديد ومن نار عذاب. فويل للذّين كفروا وكذّبوا بالآيات، فلهؤلاء «عذاب مهين.» وويل للمنافقين وللمشركين ولمن في قلوبهم زيغ والذّين أنكروا الميعاد ولا يمتثلون لما جاء في الكتاب، فهؤلاء كلّهم في جهنّم خالدين و»أعذّبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين» تقول الآية في سورة آل عمران...

لارتهان الناسّ، ترى أئمّة المنابر يلعبون بالحديث وبالكتاب. يستأثرون بما جاء فيهما من معنى وبما كان فيهما من بيان. تراهم يختزلون النصوص. يطوّعونها. يشرحونها كما اشتهوا وأرادوا. يؤوّلونها حسب ما أضمروا من مقاصد وما أخفوا من غايات. لتمرير ما شاؤوا من قصد ومدلول، تراهم يلوون عنق الجمل ويغتصبون معنى المفردات. يؤخّرون الآية هذه ويصدّرون الأخرى. يؤكّدون على هذا الحديث وينسّبون الآخر. يستندون على ما قاله هذا ويصدّون ما أكّده الآخر...

يفعل الأئمة بالمؤمنين ما اشتهوا وأرادوا. هذا شأنهم منذ أوّل الزمان. منذ طلع الإسلام. من، من الناس يعارض الأئمّة ورجال الدين؟ من، من الناس يعارض أوامر من بيده الحلّ والقرار؟ أفلم تأمر السماء بطاعة الله ورسوله وأوليّ الأمر في الناسّ؟
أولو الأمر هم أصحاب الألباب والراسخون في العلم وحملة الكتاب. هم المبيّنون للحلال وللحرام. هم الأئمّة ورجال الدين وقادة البلاد... بما كان لهم من نفوذ وجاه، استولى أولوّ الأمر على المسلمين وعلى الإسلام. ها هم اليوم يسوقون المؤمنين كالأنعام. ها هم يشرحون الدين كما شاؤوا..

في حين ترى الأمم، من بيض وسود، في الجنوب وفي الشمال، تسعى، تنهض، تغيّر من حالها، تدخل الحداثة وكلّها عزم وقرار، تلقى أمّة العرب في قعود، في خذلان. كلّ الشعوب من حولنا تكدّ، ترتقي، إلا أمّة العرب فهي دوما في الأدران، في أبغض حال. مع السنين، ازداد وضع العرب سوءا وخرابا. العرب هم اليوم أتعس أمّة أخرجت للنّاسّ وهذا «بفضل» ما يأتيه الأئمّة وأولو الأمر من ترسيخ للتخلّف، من نشر للجهالة.

حسب الأئمّة وأوليّ الأمر، على المسلمين أن يعرضوا عن الدنيا الدنيئة ويصبروا ويصابروا على ما فيها من عسر ومن ظلمات. عليهم أن ينسوا الدنيا ويعرضوا عنها تماما. عليهم أن ينظروا في الآخرة وفيها، لمن صام وصلّى وخاف السماء وأطاع الأوليّاء، جنّات خالدين فيها وخمر وحور وغلمان. فلا نظر في الدنيا ولا سعي فيها ولا صدّ لما كان من ظلم ومن شوائب. نحن بعثنا في الأرض لا لنحيا بل لنعبد السماء،. لا لنكدّ ونسعى بل لنصبر ونصابر.
  
لماذا كتب على العرب أن يظلّوا في أسفل حال؟ هل هي لعنة من السماء أم بسبب ما كان لهم من نظر ومن نظام؟ تكمن لعنة العرب في ما يحملونه من جهل بليغ، ضارب. أكبر أمّة جاهلة في الأرض هي أمّة العرب وهذا تثبته كلّ المنابر وكلّ الإحصائيات.
لا تحبّ أمّة الكتاب الكتابة ولا القراءة وتخاف العلوم وتخشى الفنون والمعارف. يهاب المسلمون الفكر والنظر ويرفضون الشكّ والسؤال. أمّة العرب هي أمّة السلف والماضي. عيونهم لا ترى غير ما كان في قديم الزمان. قلوبهم عليها أقفال، لا تطمئنّ إلّا إلى الموروث. إلّا إلى ما جاء في الكتاب...
للعرب كتاب وحيد، أوحد. هو القرآن. القرآن هو «كلام الله» ولا شيء عند العرب أبقى وأصدق من كلام الله. الكلّ مدعوّ إلى النظر في الكتاب. و»خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه.» للناسّ. فلا وجود في الدنيا لغير هذا الكتاب. ولا مرجع للمسلمين ولا نظر إلا في هذا الكتاب... لماذا النظر في غيره وفي الكتاب كلّ العلوم وكلّ المعارف وكلّ ما يحتاجه الإنسان لآخرته ولدنياه؟

فلنفرض أنّ القرآن لم يفرّط من شيء وفيه كلّ ما جدّ في الدنيا من علوم ومعارف واختراعات. فلنفرض أنّ القرآن جامع لكلّ كبيرة وصغيرة وفيه كلّ المعارف وهو كامل الأوصاف. شامل. تامّ. هل المسلمون قادرون على إدراك ما ضمّه الكتاب؟ كيف لهم تدبّره وهم في الجهل غرقى منذ أوّل الزمان، من العنق إلى الأقدام؟ كيف لهم تبيّن مقاصده وخفاياه وهم لا يملكون معرفة ولا منهجا ولا وسائط؟

لأنّهم في الجهل غرقى، ترى العرب يحملون الكتاب كما تحمل البغال الأسفار. يحفظون عن ظهر قلب سوره وآياته دون تبيّن، دون إدراك. يلوكون النصوص وقلوبهم خاويّة ورؤوسهم فارغة. طوال النهار،تراهم يرسلون القرآن في الأرجاء. يرتّلونه في كلّ مكان. يترنّمون بما جاء فيه من سجع ومرادفات. دون فهم، دون تبيّن لما جاء فيه من بيان...

بإرسال القرآن في الأرجاء، بترتيله في البيوت وفي الدكاكين وفي المقاهي، صباحا، مساءا، يرجو المسلمون من السماء هدى وإيمانا. إيمان يقذفه الله في صدورهم فتنشرح صدورهم وتمتلي تقوى وصلاحا.
كلّ هذا طبعا هو خور. كلّ هذا طبعا هو عبث وصبيانيّات. ما بحفظ القرآن يكون التبيّن ويحصل الإدراك. ما بترتيل السور والآيات في الليل وفي النهار ينهض الفكر وتتحرّك السواكن. ما بالعبادات أصلا يرتقي الناسّ. ما بالصلاة وبالصيام يمكنه مغالبة الفقر والجهل وكسب النظر الحصيف وبناء حضارة وعمرانا...

لا نفع في الصوم، في الصلاة، في الحج، في كلّ الطقوس وفي كلّ العبادات، إن شدّ الإنسان جهل وسكنته ظلمات. لا نفع في من ملكته الجهالة وشدّته الأدران. لن يستقيم العيش ولن ترتقي الحياة في ظلّ الجهل. لا حرّيّة ولا ديمقراطيّة ولا نموّ ولا سيادة لمن سكنته جهالة...
صام المسلمون عقودا وقرونا. صلّوا الخمس وأكثر. سجدوا وكبّروا وحجّوا واعتمروا وتهجّدوا واعتكفوا في الليل وفي النهار دون أن يتمكّنوا. دون أن ترتقي لهم أخلاق. دون أن يتغيّر لهم حال...

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115