وصدرت عديد الكتب والتي أكدت حقيقة لا غبار عليها وهي تصاعد التباين الاجتماعي والفوارق ليصبح في العشرية الأخيرة الشغل الشاغل للمجتمعات الديمقراطية.ولعل مساهمة هذه المسألة كذلك القضية الاجتماعية بشكل عام في أزمة المشروع الديمقراطي لعبت دورا مهما في الاهتمام الذي حظيت به في النقاش العام في عديد البلدان.كما اهتمت المؤسسات الدولية بما فيها ذات الجذور الليبرالية في النقاش في هذه المسألة والبحث على الحلول للحدّ من انعكاساتها المؤثرة على المجتمعات الديمقراطية.
ولم يقف الاهتمام بتنامي التفاوت الاجتماعي عند مراكز البحث والتفكير بل امتد إلى المجالات السياسية لتصبح هذه المسألة في كنه وأوليات الفاعلين السياسيين وهذا الاستقرار السياسي في أغلب بلدان العالم .وكانت ثورات الربيع العربي التي انطلقت من بلادنا ذات شتاء 2010 - 2011 وراء وضع الاصبع على مساهمة التهميش والحيف الاجتماعي في صعود رياح الثورة وإتيانها على النظام القديم .ولئن انطلقت من بلادنا إلا الحراك الاجتماعي والثوري ضد التفاوت والتهميش لم يقف عند حدودنا بل مس كل بقاع العالم وصل إلى معقل الرأسمالية في وال ستريت من خلال حركة «occupy wallstreet» أو «احتلال والستريت» .
وقد كان لهذه الانتفاضات تأثير كبير على أولويات السياسات العمومية للدول على المستوى العالمي وحتى على توصيات المؤسسات المالية الدولية ومن ضمنها صندوق النقد الدولي حيث أصبحت مسألة الاندماج الاجتماعي (inclusion sociale) أولى أولويات هذه السياسات.
وقد صاحب هذا الاهتمام بمسألة التفاوت الاجتماعي تصاعد الدراسات وخاصة بناء قاعدات بيانات (bases de données) ومجموعات إحصائية (séries statistiques) طويلة المدى مكنتنا من فهم هذه الظاهرة بأكثر دقة وقراءة جذورها حتى تتمكن من رسم السياسات الضرورية للحد من خطورتها وبناء مجتمع العدالة والمساواة الذي تسمو اليه المجتمعات الديمقراطية.
ورغم الاهتمام الكبير على المستوى العالمي والإمكانيات الضخمة التي وفرتها المؤسسات الدولية ومراكز البحث إلا أن بلادنا ظلت تغرد خارج السرب.اذ عدا بعض الدراسات المتفرقة للمعهد الوطني للإحصاء وبعض الدراسات المتفرقة التي قام بها بعض الباحثين لم تعرف بلادنا جهدا وطنيا كبيرا لفهم هذه الظاهرة التي لعبت دورا كبيرا في انطلاق الثورة.وظللنا لسنوات طويلة نعتمد على الإحصائيات والأرقام التي تنتجها المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي لقراءة وفهم تطور التفاوت الاجتماعي في بلادنا .
وقد أخذ هذا النقص يتراجع مع تخصيص منظمة «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» لدراسة ضافية حول مسألة التفاوت الاجتماعي في بلادنا والتي أشرف عليها الأستاذ عزام محجوب بمعية فريق هام من الباحثين الممتازين في بلادنا.وتؤكد هذه المبادرة على دور المنتدى الهام في الساحة
الاجتماعية بقيادة الصديق الهذيلي عبد الرحمان وبمعية مجموعة كبيرة من المناضلين منهم الأساتذة عبد الجليل البدوي وماهر حنين ومسعود الرمضاني وغيرهم كثيرون.وقد عمل المنتدى على ربط انخراطه - منذ انطلاقه - في مساندة نضالات الحركات الاجتماعية بعمل بحثي هام قامت به مجموعة من الباحثين الشبان والتي قدمت في مختلف التقارير التي أعدتها منذ سنوات أفكارا وآراء تقطع مع السياسات التقليدية المحافظة وتسعى إلى بناء سرديات جديدة وابتكار سياسات عمومية تعمل على بناء نمط تنمية جديد.
وقد اهتم التقرير الأخير للمنتدى والذي صدر منذ أيام بمسألة التفاوت الاجتماعي وصدر تحت عنوان «التفاوت في تونس» (les inégalités en Tunisie) .ورغم أهميته ورغم تنظيم المنتدى لندوة صحفية للإعلان عن نشره إلا إن هذا التقرير مر مرو الكرام ولم يلق الاهتمام الذي كان من المفروض أن يجده .
وسنحاول في هذا المقال تقديم محاولة تقديم هذا التقرير من خلال محاولة الإجابة على سؤال يهمنا طرحه ويخص التباين الكبير والملحوظ بين رؤية(Perception) التونسيين للتفاوت الاجتماعي ووقعه.ففي حين يرى التونسيون أن الفوارق الاجتماعية زادت واشتدت في الفترة الأخيرة إلا أن الإحصائيات والأرقام تشير إلى عكس ذلك. والسؤال هو كيف نفسر سوء التفاهم والهوة بين الرؤيا والواقع ؟.
• في رؤية التونسيين للفوارق الاجتماعية
اعتمد هذا التقرير في قراءة وتحديد رؤية التونسيين للفوارق الاجتماعية على دراسة أعدتها مؤسسة سيغما كونساي (sigma conseil) سنة 2019،وتشير هذه الدراسة إلى ثلاث نتائج أساسية أكدتها دراسات جديدة قامت بها نفس المؤسسة في الفترة الأخيرة .
وتشير النتيجة الأولى لمختلف الاستبيانات حول رؤية التونسيين لتطور أوضاعهم الاقتصادية إلى أن قرابة %70 يعتبرون أن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية عرفت تدهورا كبيرا في السنوات الأخيرة .
أما النتيجة الثانية والتي تخص الفوارق الاجتماعية فإن %60 من التونسيين يعتبرون أنها عرفت تطورا كبير في السنوات الخمس الأخيرة.
والنتيجة الثالثة تهم - في رأيي - رؤية مختلف الفئات الاجتماعية لقضايا التفاوت الاجتماعي حيث تشير هذه الدراسة إلى أن أعلى النسب لنظرة تزايد التفاوت الاجتماعي نجدها عند الفئات والنخب التي أنهت تعليمها الجامعي حيث يعتبر %78.5 منهم أن الوضع قد ازداد سوءا في السنوات الخمس الأخيرة حيث تزايدت الفوارق بصفة كبيرة .
تؤكد هذه الدراسات ومختلف الاستبيانات أن التونسيين يعتبرون أن هوة الفوارق الاجتماعية ازدادت في الاتساع في السنوات الأخيرة .و لا يقتصر هذا الشعور على الفئات الشعبية بل نجده أكثر قوة عند النخب .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل تدعم أرقام وواقع الفوارق الاجتماعية هذا الشعور الطاغي والدفين ؟
• في تطور الفوارق الاجتماعية
في بلادنا
قام تقرير المنتدى بمراجعة كل الدراسات التي تم انجازها في السنوات الأخيرة لتقديم رؤية شاملة حول تطور التفاوت الاجتماعي في بلادنا.ويمكن لنا تجميع النتائج الأساسية والمعلومات التي قدمتها مختلف فصول التقرير في خمس تطورات كبرى في مجال الفوارق الاجتماعية .
النتيجة الأولى تخص التراجع الكبير للفقر في بلادنا في السنوات الأخيرة حيث شاهدنا انخفاضا في مؤشر الفقر من %24.5 سنة 2000 إلى %15.2 سنة 2015 كما يشير التقرير إلى أن نسبة السكان الذين يعيشون بأقل من 1.9 دولار يوميا - وهي نسبة الفقر المدقع - قد تراجع من %15.1 سنة 1985 الى %0.2 سنة 2015.
أما النتيجة الثانية والهامة فتخص التفاوت الاجتماعي حيث انخفض مؤشر الفوارق الاجتماعية أو ما نشير له بالفرنسية بـ indice de Gini أو مؤشر جيني من 43.4 سنة 1985 إلى 32.8 في 2015. وهذا التراجع يعبر عن تقلص حدة أو مستوى الفوارق الاجتماعية في بلادنا.
وقد دعمت النتيجة الثالثة ما جاء به التقرير حول تراجع الفوارق الاجتماعية في بلادنا حيث أشار إلى تحسن مداخيل %10 من الأكثر فقرا في بلادنا والذي ارتفع من %2.3 من جملة المداخيل سنة 1985 إلى %3.2 سنة 2015.
وتهتم النتيجة الرابعة بمستوى التفاوت الجهوي داخل الجهات حيث أشار التقرير إلى تراجع الفوارق الاجتماعية داخل الجهات وخاصة جهات الجنوب والوسط الغربي وفي نقس الوقت إلى تراكم الفوارق في تخوم المدن الكبرى الساحلية .
أما النتيجة الأخيرة التي أردنا التوقف عندها فتخص الفوارق الاجتماعية بين الجهات حيث أشار التقرير إلى توسعها إلى حدود سنة 2010 ثم استقرارها بداية من سنة 2015.
إن النتيجة الأساسية لهذا التقرير والتي تبدو مثيرة تؤكد على تراجع الفوارق الاجتماعية في بلادنا في السنوات الأخيرة .وقد أكدت دراسات البنك الدولي هذه النتيجة من خلال متابعتها لمؤشر «جيني» حيث تشير إلى وجود ثلاث فترات تاريخية هامة في تطوره .الفترة الأولى تمتد من 1965 إلى 1975 والتي تمسح التجربة الأولى في التنمية التي شهدت تراجع التفاوت الاجتماعي ومؤشر جيني من 51.6 إلى 44. ثم الفترة الثانية بين سنتين 1975 إلى 2006 حيث شهد المؤشر فترة استقرار .ثم بدأ هذا المؤشر في التراجع بداية من 2006 ليمر من 38.5 في 2011 ثم إلى 32.89 سنة 2016.
ومع هذه النتائج والأرقام يبدو السؤال المطروح أكثر حرقة،فكيف نفسر هذا الانفصام بين رؤية الناس لتطور الفوارق الاجتماعية وتراجعها في الواقع .
• في أسباب انفصام الرؤية في الواقع
تعود أسباب هذا الانفصام في رأيي إلى عديد التطورات التي تمحو نتائج وانعكاسات تراجع التفاوت الاجتماعي في بلادنا .ومن أهم هذه التطورات نريد الإشارة إلى تدهور المقدرة الشرائية مع تصاعد التضخم في السنوات الأخيرة .كما يجب أن نؤكد على التطور الكبير في نسب البطالة خاصة بعد الجائحة والذي وصل إلى مستويات مرتفعة تجاوزت نسبة %18 في الفترة الأخيرة .كما ساهمت عديد الصعوبات الأخرى ومن ضمنها صعوبة الوصول إلى التمويل وتدهور قطاعي الصحة والتربية في هذه النظرة السوداوية السائدة في بلادنا حول الوضعين الاقتصادي والاجتماعي .
تحيلنا قراءة نتائج هذا التقرير حول الفوارق الاجتماعية ومقارنتها برؤية المواطنين السوداوية لتطور أوضاعهم الاقتصادية إلى نتيجة مهمة وأساسية وهي أن العدالة والمساواة الاجتماعية تتطلب مناخا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ايجابيا كي تساهم في بناء المشترك الجمعي الجديد.
تعتبر بادرة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في نشر هذا التقرير حول الفوارق الاجتماعية في بلادنا هامة وأساسية .ولابد من مواصلة هذا الجهد ومتابعته حتى تساهم سياساتنا في بناء عقد اجتماعي جديد يرتكز على الاندماج والعدالة والمساواة .