وساهم عديد الفاعلين السياسيين ونشطاء المجتمع المدني في هذه النقاشات لتقديم وجهات نظرهم ورؤاهم .كما ساهم المفكرون من مختلف المجالات في هذه النقاشات لأن الأزمة لم تقتصر على تعبيراتها العملية والتطبيقية بل تجاوزتها لتضع أسس النظام الديمقراطي والحداثة موضع التساؤل والجدل.فكانت للفلاسفة وعديد المفكرين في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية مساهمات هامة في هذه النقاشات.
وقد انخرطت بلادنا في هذا النقاش والجدل العالمي حول أزمة المشروع الديمقراطي ولم تبق خارج هذا التمشي لأسباب عدة. أول هذه الأسباب أن الثورة وبداية التحول الديمقراطي فتحت الأبواب على مصراعيها لتعيش بلادنا الزخم والنشوة الديمقراطية كذلك أزماتها وارتداداتها .وفي نفس الوقت وبعد مرور أقل من عشر سنوات على تجربة التحول الديمقراطي دخلت بلادنا أزمة عميقة هددت مآلات ومستقبل المسار.
وكما كان الشأن على المستوى العالمي فقد كانت أزمة التجربة الديمقراطية الغضّة في بلادنا وراء العديد من النقاشات والجدل حول أسبابها وطرق الخروج منها .وقد ساهم في هذا الحوار عدد كبير من الناشطين السياسيين ونشطاء المجتمع المدني.ولم يبق المفكرون من فلاسفة وأخصائيي العلوم الإنسانية والاجتماعية خارج هذه النقاشات بل ساهموا فيها بطريقة أساسية واهتموا بالأسس الفكرية والنظرية لتآكل المشروع الديمقراطي وتراجعه الكبير .
وقد لعب معهد تونس للفلسفة والذي يديره باقتدار الأستاذ فتحي التريكي دورا مهما في هذا النقاش العام من خلال مداخلات وندوات ونشر عديد الكتب.
وكانت آخر هذه التظاهرات الندوة التي نظمها المعهد يوم السبت 26 مارس الفارط والمحاضرة الهامة التي ألقاها الأستاذ والفيلسوف فتحي التريكي تحت عنوان «التفكير في الديمقراطية اليوم» بحضور مجموعة كبيرة من أهم الفلاسفة في بلادنا.
• أهمية المحاضرة:
تكمن أهمية هذه المحاضرة في مسألتين هامتين الأولى بطبيعة الحال موضوعها «التفكير في الديمقارطية اليوم» والذي ننتظر منه إجابات ومساهمات من فلاسفة تونس حول هذه الأزمة التي تقض مضاجع المشروع الديمقراطي العالمي .وتأتي في رأيي مساهمات مفكرينا في إطار فك هيمنة الفكر الغربي ومحاولته فرض مركزيته على المستوى العالمي ليدفع العالم إلى التفكير في أزمة مشروع الديمقراطية وسبل الخروج منها بعيون غربية.
وقد فتحت الدراسات والاتجاه المابعد كولونيالي والذي ظهر مع أعمال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد وكتابه النقدي «الاستشراق» المجال للخروج والقطع مع منظومة هيمنة النسق الغربي ورؤيته للحداثة ومحاولة بناء تصورات وقراءات من خارج هذه المركزية الغربية .
ولا تعني هذه المحاولة الغوص في سردية الخصوصية الراديكالية للآخر بل تسعى إلى بناء نقاش وتفاعل ومساهمات متعددة للمشترك الإنساني .إن قراءة أزمة المشروع الديمقراطي من جهات مختلفة وبمساهمات متعددة من شانه أن يضفي التنوع الضروري لبناء رؤية تشاركية لمستقبل التجربة الإنسانية .وتأتي هذه المحاضرة والجهد الذي دأب عليه معهد تونس للفلسفة والمفكرين التونسيين في إطار فك هيمنة الغرب وفسح المجال للآخر في بناء القضايا والرؤى لأمهات القضايا وبصفة خاصة لأسسها الفلسفية والفكرية .
أما الجانب الثاني لأهمية هذه المحاضرة فيكمن في القيمة المعرفية والفكرية للمحاضر.ففتحي التريكي هو استاذ الفلسفة بالجامعات التونسية وصاحب كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي وكرسي الاسسكو للعيش المشترك ومنسق معهد تونس للفلسفة وعضو قار ببيت الحكمة.
إلى جانب مسؤولياته العلمية يعتبر الاستاذ فتحي التريكي قامة فكرية وفلسفية حيث ساهم من خلال كتاباته ودراساته في تطوير عديد المفاهيم الأساسية التي ساهمت في إثراء الفلسفة العربية وفتحها على الخطاب الفلسفي الحديث ومن ضمن هذه المفاهيم نذكر فلسفة التؤانس وفلسفة الغيرية وفلسفة العيش المشترك وغيرها من المفاهيم والمصطلحات .
• في الديمقراطية النشيطة:
انطلقت المحاضرة من إشكالية أزمة الديمقراطية التي تعيشها أغلب بلدان العالم .وللخروج من العموميات التي تميّز النقاش حول هذه المسالة ارتأى المحاضر الخوض في الأشكال العملية والتطبيقية للديمقراطية لفهم هناتها وصعوباتها .
وأول أشكال الديمقراطية التي تعرض لها الكاتب هي الديمقراطية الإسمية ويتجلى هذا النمط «في دستور البلاد وفي نصوصها الرسمية دون أن يكون هناك تطبيق لمبدئها ودون احترام القواعد العضوية في الممارسة السياسية «.وهذا النمط من الديمقراطية هو ديمقراطية الواجهة وهي التي تحاكي الديمقراطيات الليبرالية من حيث الشكل دون أن تحفظ وتساعد على المشاركة المواطنية.ويمكن أن نشاهد هذا النمط من الممارسة الديمقراطية في عديد الأنظمة القوية والتسليطة والتي تسعى لفرض ها النوع من الديمقراطية لتفادي النقد من الخارج وبصفة خاصة من المؤسسات الدولية في أوقات الحاجة لدعمها المالي .
أما الشكل الثاني للديمقراطية والذي خصه المحاضر بالاهتمام فهو الديمقراطية الإجرائية وهي «تقنية تسمح عبر إجراء التصويت بالأغلبية إصدار قرارات يجب على كل عضو في المجتمع مهما كان رأيه احترامها وتطبيقها .وآي تدخل آخر إيديولوجي أو إيتيقي أو أخلاقي (مثل عبارة الإرادة العامة وسيادة الشعب والمصلحة العامة أو العدالة الاجتماعية الخ ..)في هذا المجال قد يشوه معنى الديمقراطية هذا التدخل الذي يفترض أن أعضاء المجتمع نفسه يكونون قد اتفقوا عليه إما تلقائيا أو بأدلة برهانية ومنطقية لأنه يشكل مفهوما ملتبسا هذا إذا لم يكن خطيرا حسب منظري الديمقراطية الإجرائية «.
وقد قام الأستاذ التريكي بقراءة نقدية عميقة للديمقراطية الإجرائية باعتبارها تفرغ المسار الديمقراطي من مضمونه الفعلي لتختزله في إجراءات تساهم في سيطرة النخب على المجال السياسي وتقليص المشاركة الشعبية إلى حدودها الدنيا.»فالديمقراطية الإجرائية التي يشير إليها الأستاذ التريكي،هي ديمقراطية حقيقية تضمن حرية التعبير والتنظيم والتصويت ولكنها تُغرق النسق السلطوي في القانونية والاجرائيات المعقدة وقد يضمحل بذلك التعارض الحقيقي والنقد الجذري للعمل السياسي في قطبين رئيسيين متماثلين في الأغراض والمقاصد مع اختلافات غير نوعية «.
بعد هذا النقد للديمقراطية الشكلية والإجرائية يخلص المحاضر إلى أن الديمقراطية التشاركية هي النمط الذي سيسمح بتجاوز أزمات المشروع الديمقراطي وانحرافته. والديمقراطية التشاركية حسب الأستاذ التريكي» تحمي الحريات الأساسية بما أنها ترسم مجموع الحقوق الأساسية في الدستور،وتؤسس النشاط السياسي على مبادئ أساسية مقبولة من الجميع (العدالة والإنصاف بالنسبة إلى راولس) ،وتعمل على اصدار القوانين التي تضمن العدالة المنصفة للفرص.وفوق كل ذلك وبواسطة هذا الأساس نفسه،يمكن أن تضع قيد العمل نظام تضامن اجتماعي من اجل أن تؤمن لكل فرد الظروف الاجتماعية التي تسمح له بممارسة حقوقه والتمتع بطريقة فعلية بالحريات الأساسية في كنف الاستقلالية التامة» .
وتكمن أهمية الديمقراطية التشاركية في دورها النشيط من حيث مساهمتها في تطوير المشاركة الشعبية والمواطنية في إقرار السياسات العامة وتطبيقها .ولعل الفكرة الأساسية التي يدافع عنها الأستاذ فتحي التريكي في هذا المجال تكمن في ضرورة إيجاد التوازن الضروري في الممارسة الديمقراطية بين الجانب الإجرائي من جهة وأهمية وضرورة المشاركة المواطنية التي تضمن المشروعية للنمط الديمقراطي .لذلك يشير في مساهمته إلى أن «الديمقراطية الفاعلة والنشيطة تنخرط بداهة في روح الديمقراطية الإجرائية ولكنها تعترف للشعب،أي للمشترك بأن يشغل الفضاء العمومي ويستخدم وسائل أخرى للتعبير عن رأيه.هذه الديمقراطية الفاعلية هي ما أطلقنا عليها اسم الديمقراطية النشيطة «.
ويعطي الأستاذ فتحي التريكي عديد الأمثلة على دور الديمقراطية النشيطة في التجربة السياسية التونسية بعد الثورة على غرار التراجع في قرارات قانون المالية لسنة 2014 في بداية جانفي من نفس السنة اثر التحركات الشعبية الكبرى المناهضة لهذه القرارات .
ويشير أن «من المتعمق نوعا ما في المسار الثوري في تونس سيلاحظ حتما أن كل المكاسب التي تحصل عليها الشعب هي حصيلة هذه الديمقراطية النشيطة التي كانت تتصدى دائما لجنوح الأغلبية البرلمانية للغطرسة وللاستبداد».
• في مخاطر الديمقراطية النشيطة:
تشكل محاضرة الأستاذ فتحي التريكي مساهمة هامة في النقاش والجدل حول سبل الخروج من أزمات النظام الديمقراطي.ويساهم مفهوم الديمقراطية النشيطة في تجاوز هذه التضاد بين الجانب الإجرائي للديمقراطية وضرورة ضمان المشاركة المواطنية.إلا أن هذه المفهوم وعلى أهميته قد يفتح الباب إلى تضاد حقيقي يجعل عم الاستقرار السمة الأساسية للنظام السياسي والصراع بين الشرعية والمشروعية كما هو اليوم عنصر تأزم دائم في الفضاء العام.وقد سمّى بعض الحاضرين هذه الديمقراطية النشيطة تسمية الديمقراطية الشوارعية للتأكيد على هناتها ومخاطرها .
تعيش بلادنا اليوم وككل بلدان العالم على وقع أزمة النظام الديمقراطي والنقاش حول سبل الخروج منها .ولعل أهمية النقاش الدائر اليوم تكمن في انه لا يقتصر على الفاعلين السياسيين ونشطاء المجتمع المدني بل يشمل كذلك المفكرين والفلاسفة .وتشكل مساهمة الأستاذ فتحي التريكي حول الديمقراطية النشيطة مثلا مهما على مساهمة الفلسفة التطبيقية في إنارة السبيل وفتح الأفاق لتجربتها السياسية ورسم وبناء المشترك الجمعي في بلادنا .
هل تنقذنا الديمقراطية النشيطة من أزمة المشروع الديمقراطي ؟
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:47 04/04/2022
- 1410 عدد المشاهدات
أثارت أزمة المشروع الديمقراطي العديد من النقاشات والجدل الفكري على المستوى العالمي وذلك لفهم أسبابها وسبل الخروج منها .