تشاؤمية العقل وتفاؤلية الإرادة مجددا

في مثل هذه الاوقات التي تتفاقم فيها الازمة ،وتعم الحيرة، ويتسرب الاحباط الى نفوس الفاعلين مطلوب من العقل أن يكون أكثر صرامة

عند التحليل ،وهو بذلك يقوم بدوره كما يغذي تفاؤلية الارادة بما أنه ينزع الأوهام فيضبط الخطوات بين الممكن والمتاح والمأمول (غرامشي) .
غاية هذه الورقة ان تربط جسرا بين العقل والامل .
أولا :صرامة العقل :
1) توازن العجز
لقد فوت الساسة فرصة دفع سعيد للتشاور فوفروا له ما يكفي من الوقت لتحويل الانقلاب على الدستور إلى مشروع للاستحواذ على كل السلطات ،وانحصر سقف المتاح امامهم إلى مربع حماية الحريات،وارتهنت البلاد الى «توازن عجز» لا يقدر فيه سعيد على النجاح ،ولا تقدر المعارضة على هزمه بعد ان دمرت ثقافة التكتيك الثقة بين الجميع.
2) سعيد :الصورة و القفا
الشخصية الفاعلة لسعيد اليوم هي شخصية «متخيلة» تشير في نفس الوقت إلى ما يرفضه الناس والى ما يريدونه .
أخلاقيا برز في صورة التعفف والتواضع والصدق. ‏
وسياسيا جسد صورة المختلف القادم من أقصى المدينة، المتحرر من الوسائط الفاسدة .
لم يقدم برنامجا واضحا ، ولكنه شخص أوجاع «الشعب» وغازل كل عناوين المشروع الوطني.
كان التأليف بين «الحقيقي «و»المتخيل «ممكنا قبل جويلية وأفلح الرئيس في دور المعارضة ، ويصعب الامر بعد الاستيلاء على كل السلطات ومواجهة الواقع فيهتريء الرصيد الأخلاقي،وينكشف العجز في تحويل الشعارات إلى رؤية تستتبعها برامج وسياسات واجراءات،وفي بناء كتلة مؤثرة، ويحتمي بدائرة ضيقة تشبهه وإلى محيطه العائلي وهي انحرافات تذكر بماض بائس.
3) سعيّد الكشاف
وبرغم كل التخريب الذي أحدثه الانقلاب ، ‏فقد كانت له بعض المزايا ، :
- فقد كشف عن نهاية المنظومة الحزبية التي كانت سببا رئيسيا في حصول الانقلاب، و أسهمت في ترسيخه، وعجزت عن دفعه للتشارك وعن تقديم بديل عنه.
- وابرز عجز مقولة «الانتقال الديموقراطي»، كما مورست ، عن التعبئة الجماهيرية ، لفشلها في التجدد وفي تحقيق الادنى الاجتماعي .
- وفِي المقابل أبرز الانقلاب تجذر الثقافة الديموقراطية في عدد ‏من الفضاءات الحيوية شكلت مساحات صمود في عديد القطاعات أبرزها القضاء، ولم تكن قطاعات الأمن والجيش والاعلام بعيدة عن هذه الروح،كما حملها فاعلون سياسيون في جميع الأحزاب والتيارات .
4) تونس إلى أين؟ .
• الصراعات المركبة: تضم خارطة الفاعلين الأساسيين خمس قوى:
• قيس ‏”سعيد”‏ وهو المحور الأساسي للعملية السياسية، ويخوض حاليا صراعا محوره الديموقراطية في مواجهة أغلب مكونات النخبة ،وسيصبح قريبا في قلب صراع عنوانه «الاجتماعي» في مواجهة قوى الانتاج و من ساندوه في البداية .
• المنتظم السياسي والمدني وقد فقد الكثير من قوته.
• الشارع الاجتماعي، وهو فاعل حاسم،ولكن لم ينجح الاستقراء في اكتشاف قواعد تتوقعه سلوكه.
• أجهزة الدولة الصلبة، وتحكم علاقتها بالأوضاع احترام الهرمية ونستبعد إعطاءها صكا على بياض لأي كان .
• القوى الخارجية المؤثرة ،ونرجح أن يكون الخط الأحمر الأدنى بينها هو رفض انهيار الأوضاع.
لقد فوت الفاعل السياسي الوطني زمام المبادرة، فارتهنت لارادة الخارج ،أو إلى قوى غير تقليدية، أو إلى احتمالات الفوضى .
• المخاطر الاجتماعية:
لا تنفك الجهات الشريكة وبيوت الخبرة عن التحذير من المخاطر القادمة .
فقد نبه المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن المخاطر الخمس الأولى التي تهدد تونس هي: انهيار الدولة و عجزها عن حماية مواطنيها وعن تلبية حاجاتهم ، وأزمة الدين العمومي والدين الخارجي ،وارتفاع البطالة وتدهور مستوى المعيشة، وتواصل حالة الركود الاقتصادي ،واستفحال النشاط الاقتصادي الموازي .
أما تقرير مجموعة الأزمات الدولية Crisis Group الصادر في جانفي فقد قرع جرس الإنذار من أن المسار الذي يمضى فيه الرئيس ‏”سعيد”‏ «قد يهدد البلاد بعدم استقرار غير مسبوق»، لا سيما إذا استهدف ‏موازين القوى الداخلية بتعلة محاربة الفساد وبهدف تعزيز نفوذ أنصاره في مناطق معينة».
والخطابات الاخيرة في مواجهة «الفساد» و «الاحتكار « تغذي هذه المخاوف .
• المشاهد الممكنة:
سنقدم هذه المشاهد من موقع المحلل الذي يستقرئ اتجاهات الأحداث دون إصدار احكام معيارية :
- مشهد التشارك: بأن يستجيب ‏”سعيد”‏ لدعوات الحوار ،وحظوظه ضعيفة ،ولن يتجاوز ، ان حصل ، معالجة «توازن العجز « دون قدرة على فتح افاق جديدة للبلاد بالنظر الى ثقافة ورهانات الفاعلين ا ‏.
- مشهد الموت البطيء: وهو خيار مرتهن بمدى حاجة الاطراف الدولية إلى كاسحة الغام تتصدى للملفات التي لم تجرؤ عليها كل الحكومات السابقة فتفرض أمرا واقعا على كل الحكام القادمين .
- مشهد الحل غير التقليدي: الذي يرفع شعار إنقاذ الدولة من الانهيار وانقاذ المجتمع من الاحتراب .وهو علامة وصول االسياسة الى الافلاس .
ثانيا: تفاؤلية الإرادة.
لئن كنا :
- نستبعد توفر حلول حقيقية في المدى القريب لتعقد الأزمة ولوضعية القوى الفاعلة .
- كما نستبعد نجاح الانقلاب في تهديد الحريات نظرا لتوفر مقومات المقاومة .
- ولا نستبعد مرور البلاد بمرحلة تنافس بين الشعبويات.
- الا اننا نرى فرصة لقوى التغيير التي تضم مكونات من النخبة رفضت الانقلاب منذ يومه الاول ، وفئات اجتماعية أبرزها الشباب ان تنخرط آنيا في كل جهود مقاومة الانقلاب وان تعمل استراتيجيا على مشروع ينطلق من خلاصات العشرية الماضية، ويقطع مع الأخلاق ومحاور الفرز القديمة، ويضع في أعلى سلم أولوياته خلق الثروة وحسن توزيعها .
قد تجد الاجيال الشابة صعوبة في التحرر من المسالك المعبدة، وفي تجاوز خيبات تجارب ما بعد الثورة.
وقد تحتاج الأجيال الأقل شبابا الى كثير من الجهد لاستجماع موارد قوة معنوية تساعدها على رفع صخرة سيزيف من جديد .
اولكن فالقضية اليوم هي قضية معنويات قبل أن تكون مسألة أفكار . ومسارات التغيير الكبرى تحتاج نفَس المسافات الطويلة .
منذ أيام قليلة نشرت France-Ouest حوارا عميقا مع ادغار موران ،الذي يبلغ قريبا سنته الاولى بعد المائة ، نصح فيه بوصفة تزاوج بين الفهم ، والالتزام والامل، ودعا إلى الانخراط في القضايا الكبرى، بشرط التفكير وفهم العالم الذي نعيش .
وقد استنبط موارد ثلاثة للأمل :
عدم اغفال دور «اللامتوقع» في حركة التاريخ .
- الإيمان بقدرة الأقليات المبدعة المقاومة لكل اشكال القمع والاستبداد .
- والإيمان بوجود فجوات في كل وضع مهما بدا مستغلقا.
ان الترتيبات المؤقتة قد تكون ضرورية لتجنب الانهيار، ولكن المنظور الاستراتيجي يتطلب تفكيرا من نوع مغاير.

عبد الحميد الجلاصي
رئيس منتدى آفاق جديدة

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115