خفايا ومرايا: شمس الضباع

أستسمح المخرج «رضا الباهي «لاستعارة عنوان شريطه السينمائي «شمس الضباع» الذي أخرجه في سبعينات القرن الماضي لأنّه يعكس في جانب ما تشابها بين تلك المرحلة والمرحلة الحالية،

ويروي الشريط قصة قرية ساحليّة يعيش أهلها على الصيد البحري وبعض المهن الصغرى إلى أن اقتحم حياتهم رجال أعمال أجانب لإقامة نزل سياحي بقريتهم، فيهرعون بكلّ حماس لمدّ يد المساعدة في بناء النزل اعتقادا منهم بأنّ ذلك سيُغيّر حياتهم نحو الأفضل، لكن لمّا دخل النزل حيز الخدمة، حصل لهم العكس وانقلبت حياتهم رأسا على عقب بتراجع نشاطهم في الصيد البحري وتخلّيهم عن مهنهم الأصلية مقابل حصول بعضهم على أعمال ثانوّية بسيطة بعيدة كلّ البعد عن ما كانوا يأملونه.
ويبرز الشريط مدى السهولة الإيقاع بأصناف من الشعب في فخ الدعاية الكاذبة والوعود الزائفة، وهنالك من يوعز ذلك إلى الفقر والجهل والمورث الثقافي الذي تجعل أمثال أولئك الأهالي يعوّلون على تدخّل العوامل الخارجة عن إرادتهم لحلّ مشاكلهم، لكن رغم تطوّر المعرفة فيما بعد وارتفاع نسبة أصحاب الشهائد والمتمدرسين فأعداد الذين يقعون في شراك المتحيّلين والدّجّالين والأدعياء في ازدياد مهول.

الكثير من القصص الغريبة والتي تفوق غرابتها أحيانا الأفلام والمسلسلات التّلفزيونية تتكرّر يوميّا في كامل جهات البلاد، فمن المرأة التي تستخدم القطط المسحورة للإيقاع بضحاياها وسلبهم عشرات الملايين ثم تختفتي عن الأنظار، إلى ذلك الذي يتقمص شخصية «المهدي المنتظر» للسيطرة على عقل امرأة مريضة ونهب كل ثروتها تحت أنظار عائلتها التي آمنت «ببركاته « وباركت دجله أملا في أن يشفيها من مرضها.

وصولا إلى الشيخ المسكين الذي كان يبحث عمّن يُخرجه من وحدته القاتلة بعد أن ماتت زوجته، فمنح ثقته لمحتال خطير أوهمه بتدبّر « خطيبة « للزواج منها، ومن خلال خطة شيطانيّة سلبه مبالغ ماليّة ضخمة واستولى على جزء من أملاكه.

أمّا عن الدّجّالين والعزامين والمعالجين «بالرّقية الشرعيّة « ومستخرجي الكنوز... حدّث ولا حرج، فأولئك نشاطهم لا يتوقّف على مدار الأيّام والأعوام ويرتادهم جمهور عريض من مختلف الطبقات والمستويات. وبالرغم من تفجّر فضائح مدوية وحكايات نصبهم واحتيالهم والأذى الذي ألحقوه بمرضى طمعوا في الشفاء على أيديهم وفتيات وقعن فرائس جنسيّة بين مخالبهم...الخ، لم يثني ذلك الكثيرين من الارتماء في مغامرات غير مضمونة العواقب مثل البحث عن الكنوز أدى بعضها إلى حصول جرائم قتل، فمازال الرأي العام يتذكّر تلك الجريمة البشعة الذي ذهب ضحيّتها الطفل «ربيع» الذي تمّ ذبحه على أيدي عمّاته وخطيب إحداهنّ من أجل «استخراج كنز» من باطن الأرض .
والكثير من النّاس من مستويات اجتماعية مرفهة خسروا ثرواتهم ومدّخراتهم لاشتراكهم في عمليّات بيع وشراء وهمية أو المضاربة بأموالهم في» شركات وهمية للتنمية المالية «، طمعا في مضاعفاتها.
صورة هذا المشهد السريالي لمجتمع طالما تفاخر في السابق بريادته لمحيطه العربي في مجال التعليم وفي التطوّر الاجتماعي الذي يجعله يقترب من النموذج الأوروبي والمؤهل لقيادة المنطقة نحو الديمقراطية، يجد مسيرته السياسيّة والاجتماعية متعثّرة بعد سنوات من الثورة ومخترقا من الفكر الخرافي والمعتقدات البالية التي ظنّ أنه تجاوزها من عقود.

فلا تحسّن التعليم من الناحية الكمّية ولا الإسقاطات الثقافيّة كانت كافية لتمكين المجتمع من كسب المناعة الضرورية لتحصينه من مخاطر الوعود الزائفة والغزو الدعائي سواء كان ذلك على المستوى الاجتماعي أو على المستوى السياسي.

فمن الوهلة الأولى استسلم المجتمع لانطباعاته وللصورة المسوّقة له حول «نقاوة» الإسلاميين واستقبلهم حشد كبير من الناس استقبال «الفاتحين «وتم منحهم مفاتيح حكم البلاد بكلّ يسر، ويتكرّر نفس المشهد مع المرحوم الباجي قايد السبسي وحزبه «نداء تونس» بالتفاف نفس الحشد حوله لمعاقبة «الإسلاميين» بإبعادهم عن السلطة بعد الخيبة التي أصيب بها جرّاء سوء إدارتهم للمرحلة التي تولوا فيها الحكم، لكن لم يتحقق لأولئك الحالمين المندفعين لا عقاب «الإسلاميين ولا ثواب «النداء» وحدث لهم ما حدث لأهالي القرية موضوع «شريط رضا الباهي» حيث وقع التّلاعب بهم والتحيّل دون أن ينالوا شيئا مما كانوا يحلمون به.

وبنفس العقليّة وبأكثر حماس استقبلت الجموع الخطوة التي أقدم عليها الرّئيس قيس سعيّد بإلقاء جميع أطراف اللّعبة خارج الحلبة ومسكه بجميع مقاليد السلطة بعد أن عرف كيف يستغل إحساس الناس بالمرارة والخيبة من سياسات العشريّة الفائتة ومن الفاعلين فيها، وعرف كيف يبني خطابه ضدّ فساد الأحزاب والنخب التي قادت المرحلة الفائتة وأن يوعز إلى الشعب بأنّها سبب فقره وتردّي أوضاعه، الغالبية من الشعب تماهت مع هذا الخطاب ولم تنصت إلى من ينعتونه بالشعوبية والديماغوجيا، بل أبدت استعدادا للتخلّي عن كلّ حقوق معنويّة وفرديّة وكلّ ماله علاقة بشعارات الحرّيات وحقوق الإنسان وحتّى القبول بعودة حكم القبضة الحديديّة مقابل أن يحقّق لها الرّئيس ثأرها من أولئك الذين حكموا البلاد طيلة العشريّة الفائتة وتسبّبوا ما نالها من تدهور واضطراب .

لكن هل يصمد ذلك الدّعم و التأييد الذي يكاد أن يكون مطلقا إذا لم يفلح الرّئيس في وقف نزيف التدهور الخطير للأوضاع الاقتصادية والمالية أو إذا لم يجد المال الكافي عند «الفاسدين» للنهوض بالمناطق المحرومة، وتحقيق تطلّعات تلك الجموع التي سارت وراءه مغمضة العينين ومنحته ثقتها دون قيد ولا شرط.
إنّ علاقة الحاكم والمحكوم في مجتمعنا تتمثّل في أنّ كلاهما ينتظر من الأخر أن يعطيه أكثر ممّا يأخذ منه، وفي النهاية المجتمعات التي شارعها أقوى من رأيها العام والتي تحتكم لعواطفها اكثر ممّا تحتكم للمنطق والعقل، قد يسهل خداعها إلى حين لكن يصعب السيطرة على مزاجها واحتواء غضبها حين تنقشع شموس منتصف اللّيل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115