الاقتصاد الدائري والثورة الاقتصادية القادمة

يعيش مجال التفكير والسياسات الاقتصادية ثورة كبيرة منذ سنوات تؤكدها وتدعمها الأزمات المتواترة في العشرية الأخيرة .وقد جاءت هذه الثورات لتقض مضاجع

الفكر النيوليبرالي الذي هيمن على التفكير والسياسات الاقتصادية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي .وقد ساهمت الأزمات في نقد الأسس التي يرتكز عليها التفكير النيوليبرالي وبصفة خاصة مبادئ عقلانية الفاعلين الاقتصاديين وقدرة النظام الرأسمالي على احتواء التناقضات والانحرافات دون تدخل الدولة أو عناصر أخرى لتعديل المشهد .

فقد اثبت الأزمات المالية المتتالية أن بعض الفاعلين الاقتصاديين وخاصة في المجال المالي لا يتصرفون وفق العقلانية التي طالما دافع عنها التفكير النيوليبرالي.بل في الكثير من الأحيان - وكما أثبتت الأزمات المالية - فإنهم ينحون إلى المضاربة والجشع ويضربون عرض الحائط بكل المبادئ مما وضع الاقتصاد العالمي في عديد المناسبات على حافة الانحدار والسقوط.

كما أشارت هذه الأزمات إلى صعوبة تعديل اقتصاد السوق وحماية استقراره دون العودة الى الدولة والتي تكون قادرة عبر تدخلها المباشر على حماية الاقتصاد الرأسمالي .وقد حدث ذلك في عديد المناسبات في السنوات الأخيرة لعل أهمها الأزمة المالية العالمية الكبرى لسنوات 2008 و2009 والانعكاسات الاقتصادية لجائحة الكوفيد.كما تستعد الدول للتدخل من جديد لحماية الاقتصاد من التضخم والانكماش جراء الحرب في أوكرانيا .

وكانت لهشاشة الوضع الاقتصادي وعدم استقراره في السنوات الأخيرة انعكاسات على الفكر الاقتصادي المهمين والسياسات السائدة في العشرية الأخيرة لتفتح فترة هامة من التفكير والتجديد في السياسات الاقتصادية.وكانت هذه الفترة خصبة من الناحية الفكرية وحبلى بالاقتراحات والقضايا الجديدة.ومن ضمن هذه الأفكار والآراء الجديدة اشرنا إلى مفهوم الدولة المحررة والسياسات النشيطة في مجال المساواة والعدالة الاجتماعية وغيرها من التحولات الكبرى في المجال الاقتصادي.

ولعل من أهم المفاهيم التي ظهرت حديثا في المجال الاقتصادي والتي أعطيت اهتماما كبيرا في النقاش الاقتصادي والكتابات والبحوث في الفترة الأخيرة في مفهوم الاقتصاد الدائري أو (l’économie circulaire) .فماذا يقصد بهذا المفهوم وماهي انعكاساته في السياسات الاقتصادية .

• في الجذور التاريخية للاقتصاد الدائري
لقد ظهرت فكرة الاقتصاد الدائري في بداية سبعينات القرن الماضي مع التقرير العالمي المعروف بتقرير Meadows حول الانعكاسات المناخية الخطيرة لنمط الإنتاج والذي ساد في أغلب البلدان الرأسمالية اثر الحرب العالمية الثانية.ويعتمد الاقتصاد الفوردي (économie fordiste) على فكرة التسريع في الإنتاج والانتاجية وجعلهما أساس النمو والديناميكية الاقتصادية .

وكان لهذا الاختيار والتوجه انعكاس كبير على التطور الاقتصادي حيث مكنا البلدان الرأسمالية من أن تعرف أعلى مستويات من النمو ومن التشغيل لتكون الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى بداية سبعينات القرن الماضي هي الفترة الذهبية .
وكان لهذه النجاحات الاقتصادية ثمن باهض جدا على الوضع المناخي للعالم .وقد أخذت التقارير الدولية في بداية سبعينات القرن الماضي تشير إلى الانعكاسات السلبية والخطيرة للرؤيا الإنتاجية (vision productiviste) التي سادت في العالم على المناخ وعلى التوازن البيئي .
كان لهذه التقارير من جهة وتردي الوضع البيئي من جهة اخرى تأثير كبير على السياسات العمومية لتصبح تدريجيا مساحة استدامة التنمية قضية محورية على المستوى العالمي .

• ماهو الاقتصاد الدائري
لقد ظهر الاقتصاد الدائري في خضم النقاش والصراع حول الانعكاسات السلبية للنمو على البيئة وعلى المناخ منذ بداية سبعينات القرن الماضي .وقد ظهرت في هذا الإطار عديد الرؤى والتصورات الطرق والسبل الكفيلة بحماية المناخ من مساوئ النمو المفرط .وقد ظهرت بعض الرؤى الراديكالية التي دافعت عن فكرة أن الحلّ الوحيد لفك هذه المعضلة هو النمو الصفر (la croissance zéro) أو النمو السلبي(la décroissance).
وفي ظل هذا الجدل ظهر مفهوم الاقتصاد الدائري والذي حاول بناء علاقة جديدة بين النمو والمناخ والتفكير وحاول التفكير في نمو لا يساهم في تردي البيئة وذلك من خلال إعطاء دور مركزي لفكرة إعادة استعمال المواد والتقليص من النفايات.
وتعتمد فكرة الاقتصاد الدائري على ثلاثة مبادئ أساسية وهي إعادة الاستعمال (réutilisation) وإعادة التأهيل (recyclage) والتقليص (réduction) ويسعى الاقتصاد الدائري من خلال هذه المبادئ إلى العمل على خلق تنمية نظيفة أو مستدامة من خلال قطع العلاقة بين النمو السريع والنفايات وبالتالي تأثيرها السلبي على المناخ .

• الاقتصاد الدائري في السياسات
لقد عرف مفهوم الاقتصاد الدائري لا على مستوى البحث الفكري فقط بل كذلك على مستوى السياسيات،ليصبح هدفا أساسيا لكبرى الشركات العالمية والتي سعت أن تنخرط بكل جهدها في منظومة التنمية المستدامة.فقد أعلنت عديد الشركات العالمية مثل Thea أن إنتاجها سيكون دائريا بنسبة %100 سنة 2030.أما شركات كارفور ودانون فقد التزمت أن يكون التعبئة والتغليف لموادها دائريا .كما أن شركة Apple والتي يتهمها الكثيرون بأنها وراء الكم الهائل من النفايات المضرة بالمناخ فقد التزمت هي الأخرى بأنها لن تستعمل مواد أولية جديدة لصناعة هواتفها الذكية في سنة 2030.
ويمكن أن نفسر هذا الانخراط في الاقتصاد من قبل المؤسسات الكبرى بثلاثة أسباب أساسية .

السبب الأول يعود إلى أهداف تسويقية(marketing) عند المستهلكين والذين أصبحوا يعطون أهمية كبرى في شراءاتهم للشركات التي تهتم بحماية المناخ والبيئة .
اما السبب الثاني والذي يفسر هذا الانخراط فيعود إلى الموقف الأيجابي الذي اخذ الاقتصاد الدائري من مسألة النمو.فخلافا لعديد المواقف الراديكالية الاقتصاد الدائري النمو بل يسعى إلى الضغط على آثاره السلبية على البيئة وعلى المناخ.
أما السبب الثالث فيهم الصعود الكبير في أسعار المواد الأولية وصعوبة الحصول عليها اثر أزمة جائحة الكوفيد والتي ستتطور مع الحرب في أوكرانيا .

• تحديات الاقتصاد الدائري
على أهمية فكرة الاقتصاد الدائري والالتزامات التي أخذتها عديد الشركات الكبرى للوصول إلى هذا الهدف في ظرف وجيز يرتطم هذا التطور بالعديد من التحديات .اذ يرى عديد الخبراء كذلك المتاعبين أن مستوى إعادة الاستهلاك عند المؤسسات الكبرى لا زال محدودا ولن يمكن من تغيير جذري على المناخ وعلى البيئة .

كما يرى الخبراء من جهة أخرى أن التطور الكبير في المنتوجات الاستهلاكية وتنوعها المتواصل يمكن بالضرورة من اعادة استعمال المواد القديمة لإنتاج الجديد.
يعرف العالم تحديا مناخيا كبيرا كان وراء وضع الكثير من الحلول والإجابات لحماتيه ومن ضمنها الاقتصاد الدائري .ولابد لهذا النقاش من أن يأخذ مجاله في بلادنا حتى نساهم في ضبط السياسات الضرورية لحماية البيئة والمناخ.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115