جـــانفي الرّهيب

« البعض مازال يُصرّ بأنّ 14 جانفي هو العيد الوطني وعدد الذين خرجوا بالأمس لا يتجاوز 1200 وربّما أقلّ نظرا لتواجد عناصر الشرطة ومن الفضوليين

بنفس المكان، «وفي العام المقبل قد يخرج شخص واحد فقط» هذا ما جاء على لسان رئيس الدّولة في سياق حديثه عن اللذين خرجوا لإحياء الذكرى الحادية عشر للثورة رغم إصداره لمرسوم يشطب الرّابع عشر من جانفي من الأعياد الرّسمية وإقرار يوم السابع عشر من ديسمبر كعيد رسمي ووحيد للثورة التّونسيّة.
فهل يمكن أن يسقط 14 جانفي من ذاكرة التّونسيين بعد شطبها بمرسوم رئاسي وبعد أن احتفوا به عشرية كاملة كذكرى لانتصار الثورة على «نظام بن علي»؟.
الذاكرة الوطنية التّونسيّة مثقلة بذكريات الأحداث المرتبطة بشهر جانفي على اختلاف رمزيّاتها ومعانيها وبقيت حيّة رغم التّراجع في إحياء بعضها ، وذلك بدءا بيوم الثامن عشر من جانفي 1952 الذي كان ذكرى مجيدة للكفاح الوطني حيث خاض الشعب التونسي أعنف مواجهة له مع سلطات الاحتلال الفرنسي، وحصل فيها المنعرج الحاسم الذي عجّل برحيل الاستعمار، وبعد عشرين عاما من ذلك اليوم ، يعود جانفي باضطراباته لكن في منحى اخر، ففي السادس والعشرين من جانفي 1978 تحوّلت ساحات العاصمة والعديد المدن إلى ميادين لمواجهات تشبه الحرب ، دوّى فيها الرّصاص وسقط خلالها القتلى والجرحى بأيدي تونسية، فلقد تحوّل يومها الإضراب العام الذي دعا إليه الإتّحاد العام التّونسي للشغل إلى انتفاضة شعبيّة عارمة، ولم تتردّد الدّولة في قمعها بكلّ ما لديها من وسائل عنف والزج بالقيادات النّقابيّة في السّجون، في ذلك التاريخ اتّضح الشرخ بين دولة الاستقلال وجزء من شعبها وتفكّكت العلاقة بين الركيزتين الأساسيتين الحزب الإشتراكي الدّستوري والاتحاد العام التّونسي للشغل، اللّذان استند عليهما النّظام لبسط نفوذه وهيمنته على الساحة السياسية لحدّ ذلك الوقت.
بعد سنتين من جانفي 1978 استيقظت تونس على وقع مفاجئة مرعبة بتسلّل «كومندوس» مسلّح إلى مدينة قفصة واحتلالها بعد قتل عدد كبير من المجنّدين الجدد بالجيش التّونسي ومسؤولين محلّيين دون رحمة، ذلك الهجوم شكّل صدمة الكبرى لدولة الإستقلال وأشعرها بالخطر الرّابض على حدودها بعد أن ثبت لديها تورّط أطراف من كلا دولتي الجوار فيه، فسارعت القيادة بمحاولة رأب الصدع الداخلي عبر المصالحة مع النّقابيين والتخفيف من قبضتها على القوى والأطراف المناهضة لها والانفتاح على المعارضة القريبة منها بغاية استعادة وحدة « الجبهة الدّاخليّة».
لكن تلك الفسحة لم تدم طويلا حيث في سنة 1984 سقط الوزير الأوّل محمّد مزالي في «مطبّ جانفي « جديد بسذاجة غريبة، حين إقدامه على مضاعفة ثمن «الخبز» بصفة مفاجئة ممّا فجّر في الثالث والرّابع من ذلك الشهر بركانا من الغضب شمل كلّ أطراف البلاد من جنوبها إلى شمالها ومن غربها إلى شرقها، تواصلت خلاله المواجهات العنيفة أسبوعا كاملا مخلّفة عشرات القتلى والجرحى وخسائر مادّية فادحة ، لقد كادت « انتفاضة الخبز» أن تعصف بأركان النّظام لولا دهاء الرّئيس «الحبيب بورقيبة « وحكمته، فقد عرف كيف يُخمد ذلك البركان. بعبارة تبدو بسيطة في ظاهرها لكنّها كانت قويّة في مفعولها «رجعنا فين كنّا قبل الزيادات».
وظنّ « بن علي» لما أصبح رئيسا أنّه وجد الوصفة المثاليّة لتجنّب «سوء طالع جانفي» ومفاجآته متوخيا تمش مغاير لسابقيه في الحكم وذلك بتنفيذ الزيادات في الأسعار المقرّة في قانون الماليّة بعيدا عن مطلع السنة وترحيلها إلى الصّيف حيث يكون المجتمع في حالة ارتخاء وفاقدا لقدرته على ردّ الفعل.
فالرّئيس بن « علي» كان صاحب خبرة مع الانتفاضات وحسّ أمني متطوّر، وهو رجل «الجانفيين»، جانفي 1978 حيث قاد هو بنفسه قمع انتفاضة الإضراب العام بصفته مديرا للأمن ، وبعد سنة من « انتفاضة الخبز» حيث جيء به من السّفارة لتضميد الجراح الأمنيّة التي خلّفتها تلك الانتفاضة، لذلك عمل على سدّ المنافذ لمنع حدوث «جانفي» أخر بوضع سياسة استباقيّة ، فنظّم العلاقة مع النّقابات وأطّرها بما يجعل هاته الأخيرة لا تخرج عن الاهتمامات المهنيّة والمطالب المادّية، ونزع مخالب المعارضات بكلّ أنواعها وضيّق عليها لتبقى بلا قواعد ولا تأثير على الرّاي العام، وتولّى بنفسه متابعة أسعار السّوق ومراقبة تطوّرها يوم بيوم، ، لكن كلّ تلك الإجراءات لم تنفع وراوغه شهر جانفي، حيث لم يخرج له من بوابة النقابات ولا من بوابة المعارضات ولا جرّاء الأسعار، فقد خرج له من حادثة عاديّة تحصل كلّ يوم في حياة التّونسيين، فحرق البائع المتجوّل لنفسه كردّ فعل على الاعتداء الذي تعرّض له من طرف عون بلدي حوّل ناره إلى حريق أيقظ المارد النّائم في أعماق المجتمع ليطيح بحكم الرّئيس بن علي في ظرف أقلّ من شهر، وكان 14 جانفي يوما مهيبا في تاريخ البلاد حيث اجتمع فيه كل ّ الطيف التوّنسي أمام وزارة الدّاخليّة للمطالبة برحيل الرّئيس «بن علي» في مشهد سريالي أمام ذهول كل العالم بإحياء صورة الثورات الشعبية التي غابت من عقود.
فهل يمكن للرئيس قيس سعيد أن ينهي بمرسومه أسطورة جانفي بعد ان اعتبر الرّابع عشر منه لسنة 2011 يوما لا مجد فيه ولا بطولة، والذي حصل فيه ليس ثورة بل انقلابا عليها وتحويلا لوجهتها ؟؟ أم أنّ للتّاريخ أحكاما أخرى تتجاوز القوانين والمراسيم؟ فالتاريخ يكرّر نفسه بأشكال مختلفة ويأتينا من حيث لا ننتظره، خاصّة كلّما سلّمنا بظاهره الذي على قول ابن خلدون «لا يزيد عن الإخبار» وغفلنا عمّا يخفيه في باطنه من تقلّبات وانعطافات، كما سجل ذلك في الماضي البعيد والقريب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115