برج بابل: المؤثرون والشغف بالذات

يُدرك الناس ان تفاصيل حياتهم يمكن أن تكون معروضة في يوم من الأيام على الشبكة. يبحثون عن أوجه الشبه بين التفاصيل. يحصل الانبهار،

هذه تجربتي التي عشتها، فكيف عاشها الآخرون؟ وتنطلق الرحلة المشحونة بالمشاعر المتناقضة وينطلق الادمان على معرفة تجارب الآخرين. برز المؤثرون في زمن يبحث فيه الجميع على الأجوبة. أجوبة حول ما يمكن أن يعكّر صفو الوجود. كشف العديدون هذه الرغبة و بدأوا رحلة التأثير و هي رحلة تعتمد في أحد فصولها على الثرثرة. عليك أن تفتح الجهاز و تسجل حضورك و تطلق العنان للمتابعة و للدهشة المصاحبة. 

هناك من يبحث عن جسد قد يجده في تطبيقة، يتابع بشغف ما سيقوله المؤثر وكيف يحوّل الجسد المرغوب إلى جسد مُمكن. لا يهمّ المكان ما يهمّ هو القدرة على الفهم و على الاستيعاب وعلى التخيل و على التغيير إن أمكن. وهناك من يبحث عن تطبيقة تقدّم له المأكولات و كيف تُجهزُ لتجاوز ضعف في القدرات أو دعم لاهتمام جديد. و تطال هذه التطبيقات كل مناحي الحياة، والكلّ يريد أن يتعلم، أن يطلع و أن يحوّل هذا الإطلاع إلى قدرة عملية.
تعتمد فضاءات التأثير على قوّة التجربة و على قوّة الفعل ويسعى المؤثر إلى إبلاغ متابعيه أن ما يقوم به حقيقة و هذه الحقيقة قابلة للمحاكاة. هناك تبادل و عرض للتجارب، عرض للذات في أدق تفاصيلها. وعرض للنتائج التي يمكن إدراكها دون تحايل. هناك بناء للثقة بين المؤثر و متابعيه ، هذه الثقة قابلة للقيس عبر تعداد المتابعين الذي يصل في كثير من التطبيقات إلى الملايين. يعلم هؤلاء المؤثرين أن صناعة التأثير تمرّ عبر القدرة على مداومة الثقة و الحفاظ عليها.
يريد الناس الإطلاع على التجارب الذاتية للأشخاص و الأهمّ في كل هذا القدرة على مسرحة هذه التجربة و جعلها أثرا يمكن تداوله عبر الوسائط المتعددة. كل تجربة يقع تداولها على نطاق واسع هي تجربة تستحق التنويه. لا يهمّ المضمون ولا تهمّ المصداقية، المهمّ انها أحدثت تأثيرا. و تأتي هنا العواطف لتعطي لأي تجربة معناها. كلما كانت التجربة مدهشة مليئة بالعواطف كلّما كانت مؤثرة و ذات فاعلية.
قبل انتشار الوسائط المتعددة للتواصل لم تكن الفرص متاحة أمام المؤثرين. لم يكونوا بهذا العدد و بهذا الحجم من التأثير. كان المؤثرون هم الزعماء السياسيون، النخبة و المثقفون و نجوم الفن و الرياضة. و يأتي التأثير بعد جهد النجومية العسير. و لكن الآن يمكن أن يصبح المؤثر نجما من اللحظة التي يكسب فيها رهانا معينا و قد يكون ذلك صدفة أيضا. مضامين التأثير تجاوزت ما هو متداول، لم يعد هناك مكان للسرديات الكبرى، تفاصيل الناس و معيشهم اليومي أهمّ و أبقى.
يبحث الناس الآن عن جودة الحياة، عن الأشياء التي تجعلهم سعداء في نظرهم وكلما زاد اهتمامهم بهذه التفاصيل كلما اقتنعوا أنهم حققوا شيئا ما. ولا يمكننا النظر إلى هذه الفئة من صناع القرار الجدد دون الإشارة إلى ما يقوم به مجتمع الاستهلاك من استثمار كلّ العتاصر التي تجعله الالة التي تلتهم الجميع. في تراجع السرديات الكبرى تراجع المثقف العضوي ليترك مكانه للخبير، و هو الفاعل الذي يستجيب مخلصا لطلبات محددّة دون أن يكون له أثر نقدي أو ابتكاري. الخبير الذي بدوره يبذل مجهودا ليعوض المثقف أصبح في مواجهة المؤثر الذي يبني معرفته على طلبات الناس العاديين و على مشاعرهم بالخصوص.
المثقف و الخبير و المؤثر ثلاث فاعلين قادرين بدرجات مختلفة على المساهمة في صناعة الرأي العام و لكن لكلّ من هؤلاء سياقاته التي يتحرك داخلها. و السياق الذي يبهر أكثر الآن، مستعينا بالوسائط المتعددّة للتواصل، هو السياق الذي يضع الشغف بالذات بوصلته الرئيسية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115