خفايا ومرايا: سحر كرة وأوجاع الجمهور

تعلن «المغرب» لقرائها ومتابعيها أنه ستكون لهم مصافحة أسبوعية كل يوم خميس، انطلاقا من اليوم، مع مصطفى بن أحمد في ركن «خفايا ومرايا».

نعيش لأكثر من شهرين ونحن نعيش على وقع بطولتين إقليميتين في كرة القدم، البطولة العربيّة بقطر في شهر ديسمبر من العام الماضي، والبطولة الإفريقية التي انطلقت في أواسط هذا الشهر بالكامرون، هاتان المسابقتان قد تكونان نزلتا من السّماء لتمتصّا شيئا من الاحتقان والسّياسي في هذا الظرف الدّقيق الذي تمرّ به البلاد، نحن نعرف الشغف الشديد للشعب التونسي بالكرة... وفي هذا العصر لأصبحت الكرة عنصرا حيويا في حياة المجتمعات البشرية، فلو كان «كارل ماركس» على قيد الحياة في هاته المرحلة لغيّر مقولته الشهيرة «الدّين أفيون الشعوب» بـ«الكرة أفيون الشعوب، وإن كان الدّين في نظر ماركس هو المخدّر الذي يُستخدم من طرف الطبقات المهيمنة لتغييب الشعوب عن واقعها ليسهل عليها استغلالها، فالكرة ظاهرة عجيبة سيطرت على جميع الطبقات ولم يسلم أي شعب على الأرض من جنونها وهوسها، وإلى اليوم يعجز علماء علم الاجتماع على تفكيك أبعاد هذه الظاهرة، من جهة أخرى فهي مصدر لصنع الفرحة والألفة بين النّاس ومدّ الجسور بين الشعوب ومن جهة أخرى فهي إحدى العوامل التي تغذي التّعصّب والنعرات القوميّة والعنصريّة ومشاعر لكراهيّة بين النّاس، قد حصل في تاريخها إحداثا مأساويّة وتحوّلت الملاعب إلى ساحات وغى ومسرحا لتبادل العنف، فقد شهد العالم سنة 85 على المباشر أ مصرع 39 شخصا ملعب «هيسل» ببلجيكا بسبب الهجوم والوحشي «للهولغانز» الإنجليز على مشجعي فريق جوفنتس الإيطالي خلال نهائي كأس أروبا للأندية، وقبل ذلك وفي سنة 69 تسبّب خلاف حول مقابلة بين «السلفادور» «والهوندوراس في تصفيات كأس العالم في مواجهة عسكرية «، وكادت مقابلة جرت سنة 2009 بين مصر والجزائر أن تودي بالعلات بين البلدين بعد أن تحوّلت إلى مواجهة إعلاميّة تجاوزت حدود اللّعبة تبادلت خلالها الجماهير التهم وعبارات الاستهجان والتحقير وامتدت المعركة إلى رئيسي الدولتين وقد اصطفّ كلّ واحد بتصريحاته إلى جانب جمهوره .
في مستوى معيّن شكّلت الكرة ساحة للمنافسة الحضاريّة والقيّمية بين الشعوب ويعتبر الفوز في مسابقة قارّية أو عالمية رمزا لقوّتها وتفوّقها على باقي الشعوب، ومثل تلك الانتصارات تفجّر احتفالات ضخمة تتجاوز في بهرجها الأعياد الوطنيّة والدينيّة ، فلقد صارت إحدى وسائل إثبات الذات الثأر من معاناتها التاريخيّة ومن النظرة الاستعمارية التي تلاحقها إلى حدّ اليوم، أمّا بالنّسبة لجماهير البلدان الغنيّة فالكرة أداة إضافيّة لتأكيد تفوّقها الحضاري والرّياضي ، فهي تتصرّف مع تلك البلدان في مجال الكرة كما كانت تتصرّف أيّام كانت تستعمرها في نهب خيراتها وتستغل قواها البشريّة وجعلت منها «منجما» تتزوّد منه بأمهر اللاّعبين الذين صنعوا ربيعها الكروي، وخلّدت ملاعبها أسماء أساطير كرويّة إفريقية مثل صليف كايتا المالي، جورج وياه اللّبيري، روجي ميلا الكامروني، جيل بوكندا السنيغالي، كانو النيجيري، رابح ماجر الجزائري، امبيلي الغاني، حاتم الطرابلسي التونسي، وغيرهم ... والجشع الأوربي لم يتوقّف وتوسّع إلى سياسة التجنيس لإدماج المواهب الإفريقية في فرقها الوطنيّة،
نفوذ الكرة وتأثيرها لم يتوقّف عند المجالات الرّياضيّة والسّياسية بل تمدّد واكتسح المجال الـمالي والتجاري وبسرعة تحوّل إلى سوق مزدهرة لبيع وشراء الاّعبين والإشهار والمضاربة وأصبحت « الفيفا» قوّة ضاربة تضاهي في نفوذها الأمم المتّحدة ونجحت في فرض قوانينها وجامعاتها وهياكلها الإقليمية والمحلّية على الدّول والحكومات ومحصنة من ضغوطها وسلطتها، ورغم الفضائح المالية والأخلاقيّة التي تفجّرت في بعض المناسبات لم تتراجع قوّة الفيفا ولم تتزعزع قيد أُنملة .
عالم بأسره انبني حول ذلك الجلد المدوّر، جماهير حاشدة تعلّق عليه آمالها كي لتثأر من بؤسها وشقاءها اليومي وتتذوّق لذة الانتصار من خلاله، لاعبون يحلمون بالمجد والثروة، هم مثل مصارعي «الآرينا « أيّام روما، ينازلون خصومهم في صراع لا رحمة فيه ولا شفقة ، غايتهم فيه الانتصار ولا شيء غير الانتصاري كي لا يعيشوا ذلّ الهزيمة والانكسار، جحافل من المسؤولين والإداريين والصّحفيين والمحلّلين تدير الإدارات وتعمّر صفحات الجرائد ومنابر التلفزات ، مصانع، متاجر وشركات رهان تشغّل آلاف العمّال تعيش منه ومن حوله وتحقق المكاسب والأرباح، حكومات وجدت فيه الدواء المناسب للتنفيس على حالات الغضب والاحتقان الذي يصيب شعوبها أحيانا، لكنّه عالم غامض يحمل الكثير من المخاطر بين طيّاته ويمثل في جانب منه كابوسا مزعجا للكثير من للمجتمعات وهي ترى غول العنف والتّطرف يتسلّل إليه ويكبر عبر مجموعات الرّفض التي، «Anti système» التي ما انفكّت تظهر وتنتشر بين الجماهير الأكثر هشاشة من الشباب والمهمشين ممّا قد يجعل منها احتياطي قابل للانفجار في أيّ وقت وكلّما تعمّقت القطيعة بينه وبين الهياكل التقليدية للمجتمع والتي عجزت أن تقدّم له «مثالا أعلى» Idéal خارج ميادين الكرة.
ومهما كانت طبيعة هذه الساحرة وسحرها فنحن نحتاج اليوم إلى الفرحة ولو بصفة مؤقتة، وعلينا أن نرفع أصواتنا بالدّعاء....بركاتك يا أقدام لا عيبينا

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115