راشد ملّاح في بحر الخطاب ، ودعوات الانفتاح مخطوطة على أشرعة سفينة مهددة بالغرق ، وهو في حالة إنهاك ولهاث ، يجدّف من اجل ان يوصل السفينة الى شاطىء الاقناع والإجماع .
يمسك راشد المجذاف باليد اليمنى ، وسط البحر المتلاطم المتدافع . ويلوّح باليد اليسرى الى الجمهور المتردد على الشاطىء، والذي لا يرغب في الرحلة على ظهر السفينة ، وينادي :
«اصعدوا ، فالسفينة للجميع ، والركوب مجانا ، ولا أمان لنا الا اذا ركبنا في السفينة ذاتها ، والبحر قد يتقلٌب ولكن لا يتغلَّب الا اذا كنا جميعا فوق ظهر السفينة» .
(2)
ظهر الغنوشي جائعا الى شدٌ الناس بخطاب استقطابي لإغراء من لم يركب السفينة بعد.
- ولمزيد اغراء الركاب، اكتشف علماء الاغراء في إعلام النهضة. انه توجد أغنية ( يا بحرية )
- رغم انها لمغَنٍّ غير تونسي ،
- هي للمغني العربي اللبناني المسيحي اليساري الشيوعي مارسيل خليفة ،
- نعم ( يا بحرية ) وهي تنص على الهمة القوية التي يحتاجها المبحرون المترددون والخائفون والهاربون من هول البحر.
(3)
لا يوجد في خطاب السفينة طيلة الرحلة آيات كثيرة،
ولا ذكر للسلف الصالح ،
فلم يكن الغنوشي بحاجة لإغراء الراكبين سفينته الحزبية و الاخوانية ، فهم مضمونون.
- وراشد يعرف ان الآيات القرانية التي قد يزين بها خطابه لا تكون الا محل تأويل من خصومه ،خاصة وانه أراد ان يقنع الناس بانه صار بلا لحية ، و بلا رؤية دينية لتناول مشاكل الحكم المدنية ، وانه مهتم بتصدير الانتاج ، وتسهيل شؤون المواطن، وقضايا الدخول الى العصر الحديث السريع ، وتجاوز البيروقراطية المعطلة لشؤون المواطن ، وعرّج على دور للثقافة والفنون ،
- لقد شاء لخطابه ان يسمعه الجميع جامعا مانعا فيه من كل شيء بطرف، ولذلك لم يستند كثيرا آلى الآيات القرانية . ليس تنصلا من القران ، ولكن ربما أراد ان يقترب من الآخرين الذين يراهم في ذهنه بعيدين عن تأثير القران .
- و لعله غير متمكن من حفظ القران مثل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي...
- بقدر ما كان خطاب الرئيس الباجي محمّلا بالآيات القرانية المسالمة والداعية الى التوافق ،والجنوج الى السلم ، فان ذهن راشد شارد في الذين هم خارج السفينة.
-ومعنيٌّ بالسمكة التي تسبح في البحر ،لا بالسمكة التي وقعت في الشبكة.
- فالمؤتمر كان متجها الى من لم يدخلوا الى حزب النهضة بعد .
- والفرق هو ان الاول رئيس حزب وصل الى السلطة
- وأما الغنوشي فعليه ان يتعب لتقديم برنامجه الرئاسي
- وكان الغنوشي يحكي بشكل ذكر كثيرين بآلية الخطاب عند زين العابدين بن علي في ذكرى صعوده الى القصر الرئاسي في 7 نوفمبر .
- صحيح ، مع فارق كبير هو ان الزين بن علي كان يأتي في خطابه على برنامجه السياسي نقطة اثر نقطة في فقرات موجزة لا بلاغة فيها ولا بيان غير لغة البلاغ والتبيين .
- اذَنْ ، يمكن القول ان خطاب الغنوشي في المؤتمر كان خطاب الطموح الى رئاسة الدولة.
- بالضبط ، مثلما كان خطاب الباجي قايد السبسي خطاب رئيس اخوان... لكن ...
- لكن مع ملاحظة ان راشد يريد ان يهدي تراث النهضة الى تونس، على أمل ان تعتبر تونس ان النهضة هدية !
- وخطاب قائد السبسي يريد ان يذكر النهضة بأنه عليها ان تكون حزبا مدنيا وان تَتَتَوْنَس . .
(4)
لقد أراد راشد ان يعدل بوصلة الخطاب على الذين هم خارج السفينة حيث التحالف والتوافق والتصالح والتصادق والتزاحم
- والتدافع وهي نظرية الشيخ في الوصول الى السلطة .
- نعم ، قوطع خطاب الشيخ راشد الغنوشي بأغنية (يا بحرية ،)
- وهذه رسالة موجهة الى عشاق هذه الاغنية من اليساريين الذين تربوا على إيقاعات مارسيل الذي غنى هذه الاغنية اول مرةعلى مسرح قرطاج عام 1980 .
- هل معنى هذا ان الشيوعيين هم الذين اندسوا ، ودخلوا على خط النهضة و برمجوا للشيخ هذه الاغنية ؟
- ربما من يدري ؟
- او ان شباب النهضة هو الذي اندسّ في تراث اليسار وأراد ان يرمي بالأغنية في فضاء المؤتمر تماشيا مع النفس الاستقطابي عند الشيخ راشد وهو يلقي خطابه .
- روح الاستقطاب واضحة في الخطاب الغنوشي الذي ابتعد عن الدين ، وحتى عن الآيات القرانية ليوحي بان النهضة صارت خفيفة ، ورقيقة الدين.
- وهذا يظهر من خلال سفينة الغنوشي التي حمّل على ظهرها من كل زوجين اثنين .
-وهل صارت سفينة راشد مثل سفينة نوح التي فيها من كل زوجين اثنين قبل ساعة الطوفان ؟ .
- نعم ، مع فارق هو ان سفينة راشد تحمل من كل زوجين اثنين هي الاخرى ، ولكن الزوجين مطلقان ، وكل راضٍ وكل في طريقة ماض.
- وكل هذه فوق لسان راشد ساعة المؤتمر .
- كان راشد مثل اغلب الشعراء لا يكتبون الشعر لزوجاتهم ، وأُمّ الأولاد المركونة في البيت ، بل للحبيبة الهاربة اللعوب الطروب التي لا تفي بالمواعيد ، ولذلك قالوا ما غنت ام كلثوم : يا حبيبي تعال ، وانا في انتظارك
(5)
وتشبيه تونس بالسفينة من خيالات الغنوشي .
- وقد يكون استوحى التشبيه من السفينة المرسومة في شعار الجمهورية التونسية ؟
- رئيس الجمهورية استطاع أن يبيع الماء في حارة السقائين، فكان خطابه مزدهرا بالآيات القرآنية الكثيرة التي جاءت في كلمته في مؤتمر يمكن نعته بمؤتمر الاستقطاب ،
(6)
- أراد الغنوشي المبحر ان يستبحر الجميع في السفينة الغنوشية الاخوانية ،
- على ذكر الاخوان لم يأتِ الغنوشي على سيرتهم ، الا تنديدا بالاٍرهاب الذي اعتدى على الشهيدين الشهيرين في الجبهة الشعبية اليسارية المعارضة وهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي ، وقد جاء ذكرهما في خطاب الغنوشي وسط غمغمة مكتومة من جمهور النهضة الحاضر في المؤتمر.
- كما لوحظ ان عموم المؤتمرين من حزب النهضة لم يستحسنوا ذكر رموز تونس أمثال :
الزعيم الحبيب بورقيبة ( الذي هو كافر في نظر النهضة لانه دعا الى سفور المرأة وتعليمها كما دعا ذات مرة الى الافطار في رمضان ان الحت حاجة الجسد ).
ونصير المرأة في ثلاثينات العشرين الطاهر الحداد(الذي هو زنديق في عين النهضة لانه ناقش وضع المرأة في الشريعة فاستهدفه رجال الدين من المتزمتين ).
ومحمد البوعزيزي المشهور ( الذي كان ولاعة الانتفاضة التونسية ) وهو في نظر النهضة ويوسف القرضاوي منتحر اي قاتل نفسه ، ولكن تفضلت النهضة كما تفضل القرضاوي بالترحم على البوعزيزي والدعاء له حتى يقبله الله في زمرة الشهداء .
(7)
- ماذا كان ينقص الغنوشي ليكمل خطاب الاستقطاب؟
- لا شيء فلم يفرط في المؤتمر من رمز الا اتى عليه بالذكر والاستقطاب
- وكانت ذراعاه مفتوحتين من فرط الترحاب حتى يدخل التونسيون في حزب النهضة افواجا ،
- هي تلك الأفواج البشرية من الامواج «التجمعية الديموقراطية» التي كانت تتدافع كالبهاليل ، بالمناكب والتهاليل لنيل الرضا والبركات من يد زين العابدين الغنوشي.
(8)
- ماذا تخفي النهضة ، وهي تنوي تغيير جلدها ، وماذَا تحت لسان راشد الغنوشي ؟
- أسئلة تجيب عنها قواعد حركة النهضة التي تدربت على السمع والطاعة ، فلا يمكن التعويل على لعبة التحاليل الصحافية القائلة بان النهضة قد تغيرت في خطابها ، وان بها شقوقا وفروعا.
- ذلك ان النهضة العميقة مخبوءة تحت لسان رأسها راشد الغنوشي.