الدّولة، السياسات العمومية للطفولة وبناء الثقة

ليست الطفولة فئة عمرية، إنها معيشٌ، وبناء اجتماعي، وجسدي، وعاطفي. وهي أيضا ذاكرة وحنين نسترجع أيامنا ونعيد ترتيبها

ونبحث فيها عن أشياء تعدّل هويتنا وتقودنا إلى الآتي. ولهذا كلّه أضحت الطفولة رهانا للمستقبل وبوصلة تقودنا إلى ما نرغب فيه. تتمثل مجتمعات الطفولة بأشكال متعددّة، هناك من المجتمعات من تُلغي الطفولة وتُسرعُ نحو أعمار أخرى، وهنا لا معنى لثقافة حقوق الطفل ولا معنى للمرافقة في جميع أشكالها. تعيش الطفولة في هذه المجتمعات على هامش الانصاف الاجتماعي. وهناك من المجتمعات من تقف عند الطفولة وتبني من خلالها ما يجعلها متصالحة مع نفسها فتسعى إلى بلورة سياسات عمومية تضع الطفل في قلب عملية البناء. قل لي من طفلك؟ أقول لك من أنت.
هناك تحدّ كبير يواجهنا في علاقتنا بالطفولة، وهذا التحدّي هو كيف نجعل من الطفولة محورا لسياسات عمومية قائمة الذات مدعومة وموجهة لجميع الفئات الاجتماعية وخصوصا تلك التي تشكو طفولتها من أزمة وعي وأزمة إمكانيات وغياب أجوبة الدولة المقنعة. ولكن هناك ما يمكن اعتباره في الأشهر الأخيرة بداية بلورة لسياسات عمومية في مجال الطفولة مبني على أهداف واضحة وهي تحسين الالتحاق المنصف بخدمات التنمية في الطفولة المبكرة من 0 إلى 8 سنوات ذات جودة وتحسين قدرات ومعارف وموارد الأولياء و الأسر وكذلك تحسين وضعيات الأطفال الهشة وضمان تربية دامجة ذات جودة إلى جانب تطوير جودة الخدمات و التكوين وكفاءة الخدمات. وتحتاج الطفولة إلى دعم البحث العلمي وأنظمة المتابعة والتقييم. ولكن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها بالطريقة المرجوّة إذا لم تكن مسنودة بمنظومة مناصرة لتغيير التصورات مع حوكمة جيدة وتمويل قادر على الوصول بهذه الأهداف إلى مبتغاها.
تبدو هذه الأهداف التي أعلنتها وزارة والأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن مؤخرا والقابلة للإنجاز بداية تنفيذ سياسات عمومية منصفة وطموحة في مجال الطفولة. وحين تكون الأهداف واضحة بمؤشرات قياس قابلة للمتابعة والتقييم يمكن لنا في هذه الحالة أن ندفع بالفاعلين والشركاء إلى الإيمان بالمشروع والتطلع إلى طفولة ضامنة لحقوقها. إن ما يمكن إدراكه أن هذه الأهداف جاءت دامجة تُراوح بين مجالات عديدة مرتبطة بالأسرة وبالبحث العلمي وبتطوير القدرات وبالحوكمة وحسن التصرّف مع إعطاء الأولية للفئات الاجتماعية الهشة والتأكيد على مبدإ التناصف. ويقع كل هذا بالالتزام بمعايير الجودة.
هناك توجّه نحو تدعيم الطفولة المبكرة من 0 إلى 8 سنوات وهي المرحلة التي تتشكل فيها قدرات الطفل الذهنية والصحية والعاطفية والعلائقية بما تعنيه من تطوير الخدمات وتدعيم مؤسسات المرافقة ضمن مقاربة حقوقية واضحة المعالم. ولكن المستجدّ في كل هذا هو إعادة الاعتبار للدولة ولمسؤوليتها في ضمان هذه الحقوق. وتسعى وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في السنتين القادمتين إلى إحداث 13 روضة بلدية ضمن مقاربة دعم القطاع العام في أخذ موقعه في استراتيجية تطوير الطفولة المبكرة. وتشكل هذه المبادرة نهجا ذكيا وطموحا لإرساء المصالحة بين الأسر والدولة عبر مجال الطفولة، مثلما تدعم هذه المبادرة تدعيما لبناء الثقة بين الطرفين. يمكن للدولة أن تستعيد ثقة مواطنيها فيها عبر خدمات الطفولة.
إن السياسات العمومية للدولة في مجال الطفولة المبكرة كفيلة بأن تعدّل الحيف الاجتماعي وتتدخل من أجل إعطاء الأسر الفقيرة إمكانية أن يتمتع أبناؤها بالخدمات الأساسية. وهنا تستعيد الدولة دورها كدولة راعية واجتماعية وهو دورٌ اتسم بالضعف في العشرية الأخيرة وقبلها. وهنا يأتي برنامج تمكين الأطفال فاقدي السند من الالتحاق برياض الأطفال و التمتع بالتربية ما قبل المدرسية كمؤشر يكشف استعادة الدولة لدورها الاجتماعي. بعض المؤشرات الدالّة تفيد أنه ما يقرب من 10500 طفل انتفعوا في السنة التربوية 2020-2021 بمساعدة الدولة التي مكنتهم من الالتحاق برياض الأطفال. ويتمّ هذا في المناطق المهمشة الداخلية التي تشكو من ضعف التغطية في مجال التربية ما قبل المدرسية.
ما يهمّنا في ذكر هذه المؤشرات الجادّة أن السياسات العمومية في مجال الطفولة المبكرة تأتي ضمن متابعة إرساء أهداف الاستراتيجية الوطنية متعددة القطاعات لتطوير الطفولة المبكرة ( 2017 - 2025) و التي ندركُ معها أن وزارة الأسرة و المرأة و الطفولة و كبار السن قد بدأت فعليا في رفع تحدّي متابعة هذه الاستراتيجية الشاملة في مجال الطفولة المبكرة من أجل البناء المجتمعي الذي نطمح إليه. هناك مشروع جادّ في مجال الطفولة بدأ يتحرك... المجتمع بطفولته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115