خواطر من أجل أن يكون التعليم رحلة ممتعة

للقيام بدعوة اكثر من خمسين استاذا لاجتماع استثنائي قام مدير مدرسة اعدادية بالاتصال بمنظوريه جميعا بواسطة الهاتف القار

ورغم ان المؤسسة الإعدادية مرتبطة بشبكة الانترنات وأنها تدرس مادة الاعلامية كمادة اجبارية فان اختراعا قديما اسمه التراسل الالكتروني (الايمايل ) لم يدخل بعد في عادات التعامل بين الادارة ومنظوريها رغم انه يوفر كثيرا من الوقت والمال
يبرز هذا المثال البسيط مدى جمود وزارة التربية وعدم ديناميكيتها من ناحية تطوير وسائل وطرق عملها ليس الادارية فقط بل وخاصة البيداغوجية والنتيجة أن تلميذ اليوم يكره المدرسة وما تنامي العنف اللفظي والمادي وآخره حادثة الاعتداء الشنيعة على الاستاذ بن سلامة بمعهد ابن رشيق بالزهراء ومغادرة اكثر من مئة الف طفل ومراهق لمقاعد الدراسة كل سنة يتجه كثير منهم إلى الانحراف أو الهجرة السرية إلا بعض من مظاهر هذه العلاقة المتوترة بين التلميذ و المدرسة.
في السنة المنقضية امتحن تلامذة متفوقون (معدلاتهم تساوي أو تفوق 17 من عشرين ) في مدرسة إعدادية بولاية نابل في مناظرة النوفيام فتحصل اغلبهم على معدلات تتراوح بين 9 و10 من عشرين :تؤكد هذه النتائج حقيقة حزينة مفادها ان تلامذة التاسعة اساسي لا يجيدون في اغلبهم كتابة نص سليم باللغة العربية ولا تستطيع نسبة هامة منهم حل مسالة رياضية عادية.
وحتى النقاط التي يروج لها على انها المضيئة مثل التلامذة المتفوقون فان الحقيقة ان نظامنا التربوي يقوم بانتقائهم عبر مناظرات وطنية اختيارية ثم تكوينهم في معاهد نموذجية ثم يمنحون منحا للدراسة بالخارج وفي النهاية نجدهم يعملون لصالح دول متقدمة في شكل هدايا ثمينة مدفوعة الاجر ومن المال العام .
ويوجد وجه اخر سيء للحقيقة يتمثل في ان كثيرا من المتخرجين وخاصة من الشعب العلمية يفتقدون إلى الجانب «القيمي» فمثلا يرفض اغلب الاطباء المتخرجين حديثا العمل في الولايات الداخلية ولو لسنة او سنتين فقط ,كما ان كثيرا من أصحاب الشهائد العليا تبنوا في العشريات الأخيرة الفكر المتطرف في اشارة واضحة الى هشاشة التكوين الفكري والنقدي لدى نسبة لا باس بها من ثمار المدرسة التونسية .
هكذا فان المجموعة الوطنية لا تكاد تستفيد من ابنائها المتميزين الذين وقع فعل كل شيء لتشجيعهم على العمل بالخارج أو بالعاصمة فقط.
مقالي هذا محاولة لنفض الغبار عن طرق ومناهج وفلسفة كلاسيكية مملة ادت الى جعل التعليم عبئا ثقيلا وقضت على امكانية أن تكون المدرسة فضاء لاكتشاف أشياء جميلة تشد الطفل وتجعله يحب الذهاب اليها وتفتح امامه افاقا رحبة للحياة وللعمل .
أود في البداية أن اذكر بحقائق مهمة :
اولا ان التعليم بمرحلتيه الاساسية والثانوية يتعامل مع انسان عمره عموما يساوي او اقل من ثمانية عشرة سنة ولذلك فهو يصنف رسميا كطفل وما تعنيه هذه الفترة من هشاشة على مستوى تكوين جسده وعقله وشعوره فالشاب مثلا يكمل تعليمه الثانوي ولم يكتمل بعد نمو جسده بالكامل (يكتمل في حدود ثلاثة وعشرون سنة) .
ثانيا ان التعليم يقوم اساسا على ركيزتين تقنيتين أولاهما إتقان اللغة الأم (العربية ) ولغة ثانية تكون لغة العلم والثقافة الاولى في العالم (الانقليزية) وثانيا التدريب على التفكير المنطقي» العلمي» ويمثلها علم الرياضيات .
ثالثا ان التعليم يجب ان يوجه الى جميع التلاميذ ولا الى فئة واحدة وهذا يعني ان لا يكون نخبويا بل يراعي الفوارق في التقبل والاختلاف في المواهب والاهتمامات .
رابعا ان التعليم يجب ان تكون له القدرة على بث قيم مثل الانفتاح على الحياة بجميع مظاهرها و التدريب على التعاون بدل التنافس والعمل من اجل المجموعة بدل الانانية والانفتاح على الاخر بدل الانغلاق ومزايا السلام والشوق الى المعرفة .
ولكن لماذا تعتبر مدرستنا مريضة ?
هناك حقيقة اريد ان ابدا منها وهي ان تلميذ السابعة اساسي وهو طفل لا يتجاوز عمره 12 سنة يدرس15 مادة بالتمام والكمال (لغة الإعداد لها دلالاتها ) منها 3 لغات و4 مواد علمية و3 مواد فنية ومواد أخرى وبالمقارنة مع الفترة التي درست فيها بالمدرسة الإعدادية تمت إضافة 4 مواد على الأقل منها الفيزياء والإعلامية والانقليزية والمسرح .
كما ان التلميذ أصبح «مجبرا « وحتى نهاية المرحلة الثانوية على تعلم 4 لغات كاملة منها ثلاث اجنبية في حين لا يتعلم التلميذ الأمريكي مثلا إلا لغته إلام وهي الانقليزية .
كما استطيع ان اضيف أن التلميذ التونسي يبدأ مشواره التربوي مبكرا ( في حدود5 سنوات ) اذا اعتبرنا القسم التحضيري في حين يدخل التلميذ الالماني مثلا المدرسة في سن السابعة .
قد يبدو للوهلة الاولى ان زيادة المواد وسنوات الدراسة شيء طيب ومحبذ ولكن الحقيقة غير ذلك .
الحقيقة ان كثرة ساعات الحضور الاجباري في فضاء مغلق هي بالنسبة لطفل بمثابة «السجن» خاصة وان طريقة التدريس كلاسيكية جدا ونظرية و تعتمد على التلقين وتمنع التلميذ من التحرك داخل فضاء القسم والمشاركة في انتاج المعرفة .
يبدو لي شخصيا ان اضافة المواد بالمدرسة الاعدادية وحتى الثانوية (بالنسبة للغة الأجنبية الرابعة ) كان لأغراض سياسية ولا تربوية اذ كان النظام انذاك يريد ان يعطي الانطباع انه يريد ان يشغل اكبر عدد من العاطلين عن العمل مع علمه انذاك ان التعليم وحده لا يستطيع ان يستوعب كل المتخرجين كما ان الاصرار على تدريس اللغة الفرنسية كلغة ثانية بدل الانقليزية ناتج عن ضغوط اجنبية وغير نابع من قناعات داخلية.
إذن وكتشخيص اولي يبدو لي ان اول معضلة للتعليم هي ما سميه ب «تخمة المواد « او كثرتها بالنسبة الى» طفل» وفي مرحلة من التعليم «غير متخصصة « .
لتخفيف العبء دون المساس بالجوهر لماذا لا نقسم المواد في التعليم الاعدادي الى قسمين واحدة اساسية و تدرس في الصباح وأخرى اختيارية وتدرس بعد الظهر في شكل نواد (شكل مختلف) وان تدمج بعض المواد في مادة واحدة.
في مجال اللغات مثلا ارى من الحكمة ان يدرس التلميذ اللغة الام وهي العربية ثم الانقليزية مع بداية السنة السابعة اساسي .
لماذا لا يقع ادماج مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الاسلامية والتربية المدنية مع مادة الحضارة العربية (تصبح مادة واحدة ) وذلك في شكل كتاب نصوص تختار نصوصه بعناية حيث يتعلم التلميذ لغته الام من خلال نصوص عن التاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية والتربية المدنية والأدب :
ألا يعتبر القصص القرآني مثلا آثرا ادبيا .
في مجال التاريخ والجغرافيا مثلا ا ستمتعت في الفترة الأخيرة بقراءة مقالات شيقة عن تاريخ الجاليات الاوروبية (الايطالية والمالطية والفرنسية ) التي هاجرت إلى تونس في القرنين التاسع عشر والعشرين كتبها ايطالي متيم بحب تونس اسمه Alfonso Campisi وهو كاتب يدافع عن حق تنقل الأشخاص بين ضفتي المتوسط ويعتبر هذا الأمر إضافة حضارية مهمة لدول الضفتين : يمثل هذا دليلا على أننا نستطيع أن ندرس أبناءنا التاريخ والجغرافيا والدين والأدب والحقوق المدنية وربما مواد أخرى وذلك عبر «قراءة نصوص ممتعة وبسيطة وعميقة في نفس الوقت» .
كما أرى ان تعليم اللغة عن طريق قواعد النحو والصرف هو شيء ممل جدا لان اللغة هي قبل كل شيء «ملكة « تكتسب أساسا بالقراءة الممتعة (المطالعة ) والاستماع والحوار.
أما بالنسبة للرياضيات فالمناهج المتبعة تركز على شيء اساسي وهو «إتمام البرامج « وكان هذا العلم له «نهاية» في حين أن الرياضيات اكتساب ملكة «التفكير المنطقي الصارم « الذي يمكنك من معرفة المجهول عن طريق المعلوم وهذه الخاصية المميزة للرياضيات يبدأ التلميذ بالتعامل معها خاصة مع الهندسة التقليدية ومع بداية السابعة اساسي حيث يطالب ببرهنة كتابية لمسائل هندسية .
ان روح تعليم الرياضيات تكمن في النجاح في بث محبة البحث عن المجهول ( موضوع السؤال ) عن طريق المعلوم وذلك باعتماد ما أسميته ب»التفكير المنطقي الصارم» وهذا يتطلب إعطاء وقت اكثر للتلميذ داخل القسم من اجل البحث الفردي وعدم المبادرة بإعطاء الحلول وكذلك لماذا لا نترك جزءا صغيرا من البرنامج في شكل عمل فردي (مثل درس متوازي الاضلاع للثامنة اساسي حيث ولمعرفة خصائص متوازي الاضلاع يستعمل التلميذ كل المكتسبات السابقة التي درسها في إطار الهندسة الاقليدية).
اما بالنسبة للمواد الفنية لماذا يجبر التلميذ على حضور ثلاث مواد بالكامل وهي الموسيقى والمسرح والتربية التشكيلية, لماذا لا يختار واحدة فقط مع امكانية تغيير اختياره في السنة الموالية بحيث يستطيع التعرف على كل المواد الفنية طيلة السنوات الثلاث للفترة الاعدادية وهكذا يبدا بالتدرب على الاختيار واتخاذ قرارات .
ومثل المواد الفنية لماذا لا يختار تلميذ الاعدادي مادة واحدة علمية من بين المواد الثلاث وهي الاعلامية والتقنية والفيزياء مع امكانية تجديد اختياره في السنة الموالية بهذا يستطيع التعرف على كل المواد العلمية طيلة الثلاث سنوات .
وبهذه الطريقة يصبح عدد المواد في المدرسة الاعدادية 6 عوضا عن 15 وهي العربية والانقليزية والرياضيات وتدرس في الفترة الصباحية و تدرس بنظام الأفواج (نصف قسم ) بعد الظهر تدرس مادة علمية اختيارية ومادة فنية اختيارية كذلك الرياضة وبطريقة النوادي حيث يسمح للتلميذ بالتحرك داخل فضاء الدرس والقيام بالتجارب العملية .
وهذه الافكار التي تهم المرحلة الاعدادية نستطيع استلهام تغيير مماثل يشمل المرحلة الاولى من التعليم الاساسي بحيث تقتصر المواد في هذه الفترة على اللغة الام وهي العربية وعلى الرياضيات (وليس الحساب ) والرياضة وان لا تتجاوز ساعات التدريس اليومية ساعتين فقط ففي السنوات الاربع الاولى على ان تمتد الى اربع ساعات في السنوات الخامسة والسادسة .
في فلندا مثلا وهي بلد مثال في مجال التربية والتعليم لا يقوم المعلمون بتعليم اي شيء خلال السنتين الاولتين بل يأتي الأطفال فقط ليلعبوا ويتحركوا بحرية في قاعة الدرس ويتعودوا على روح المجموعة والتعود على لمس الكتب ذات الصور الكبيرة وتصفح البعض منها وتعتبر تلك مرحلة تاهيلية مهمة إذ تثبت الارقام ان نفس هؤلاء التلاميذ هم الاكثر قدرة على القراءة والكتابة في نهاية الفترة الاعدادية .
هذا حسب رأيي سوف يكون الخطوات الاولى والشجاعة لتغيير تعليمنا الى الافضل من اجل تخفيف العبء على التلميذ وجعل عملية التعلم عملية ممتعة على ان تلي هذا اشياء اخرى تتعلق مثلا بمزيد التعمق في إثراء بعض المحاور بتنظيم خرجات في الطبيعة كذلك التفكير في ادراج تكوين يدوي حرفي مع بداية التعليم الاعدادي...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115