منبــــر: من ضيق النصّ إلى رحابة المعاني: «الخطاب الصوفي بين التضليل والتظليل: قراءة في الشطحات الصوفيّة (الدكتور ثامر الغزّي)

من حرف الصاد إلى حرفي الضاد والظاء. رحلة ومتاهة ومغامرة ..حرف الصاد رمز للتصوّف والصفاء والصفوة ..والضاد رمز للتضليل والظاء رمز للتظليل .

لعبة الكلمات والحروف ..ومن الحروف تكون الكلمات وللكلمات المعاني الغزار ..والمعاني تمرّ عبر الخطاب والخطاب أنواع ..ومنها نوعية الخطاب الصوفي الذي له من الخصوصية والمكوّنات ما به يتميّز عن غيره ..الخطاب الصوفي نثرا وشعرا ودعاء ومناجاة ومصنّفات وأورادا مراوحة بين الرمز واللغز بين الوضوح والغموض بين الظاهر والباطن بين الجليّ والخفي..

انغمس في هذه المراوحة إن لم نقل هذه المتاهة رجل له باع في مكامن الخطاب واللغة واللسانيات والنقد هو الدّكتور ثامر الغزي أستاذ محاضر في الجامعة التّونسيّة، متعدّد الاهتمامات؛ فقد تناول بالبحث قضايا النّقد الأدبيّ والنّظريّات اللّسانيّات، والمدارس النّقديّة، وعلم الأديان المقارن، ومن أهمّ أعماله المنشورة: كتابه المميّز «كاريزما الشّيطان بحث في تمثّل الإنسان لأصل الشّرّ».
كذلك هذا الكتاب ذي 145 صفحة في طبعته الأولى 2021 بعنوان «الخطاب الصّوفي بين التضليل والتظليل : قراءة في الشطحات الصوفيّة « جال فيه في بعض النصوص الصوفية فاحصا مجالا رحبا يحتاج إلى إعادة نظر ورؤية جديدة وإن كانت محفوفة بالمخاطر والصعاب من منظار المجاز والرموز. ومن منظار الشطح الذي صار تهمة للصوفيّة في حين أنّه مزيّة وسمة إبداعية ..فالشطح اختصاص والشطح الصوفي من أكثر ما اختلف فيه النقّاد قبولا وردّا وتوقّفا، وهو من أغرب الظواهر الصوفية، ومأتى الغرابة أن ظاهره حسب أصحاب حرفيّة النصّ مخالف للشريعة ومجلبة حتّى للتكفير والزندقة رغم صدوره عن الذين اشتهروا بالصلاح، والذين يقتدى بهم في السلوك، فالناظر إلى المخالفة لظاهر الشريعة قد يجرح الصالح ويتهم البريء، و في المقابل هناك من ينظر إلى الشطح نظرة ايجابية خالصة تماماً، كما هو الحال مع العارف السرّاج الطوسي الذي رأى أنّه مظهر كمالٍ لا بدّ أن يظهر على العارف دون إرادته، بل هو «أقلّ ما يوجد لأهل الكمال»، وعرّفه بأنّ «معناه عبارة مستغربة في وصف وجْدٍ فاضَ بقوته وهاج بشدّة غليانه وغلبته.. ألا ترى أنّ الماء الكثير إذا جرى في نهر ضيّق فيفيض من حافّتيه يقال شطح الماء في النهر، فكذلك المريد الواجد إذا قوي وجْده ولم يُطق حمل ما يردُ على قلبه من سطوة أنوار حقائقه شطح ذلك على لسانه فيترجم عنها بعبارة مستغربة مشكلة على فهم سامعيها إلاّ من كان من أهلها ويكون متبحّراً في علمها.».
وفي جميع الأحوال يعبّر الشطح لدى العرفاء عن صدق الإدراك الصوفي وصحته، سواء ظهر كحالة كمالية على لسان العارف، أو هو عيب ليس للعارف حقّ التفوّه بما يدركه من حقيقة. و سواء ظهر الشطح في حالة السكر، أو في حالة الصحو مما لا يعتبر اصطلاحا والشواهد على شطحات الصوفية كثيرة لا تحصى منها قول الشاعر:

رقّ الزجاج وراقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر.
ومنها ما ذكره أبو يزيد البسطامي أنّه قال: رفعني (الحقّ) مرّة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد، إن خلقي يحبّون أن يروك. فقلت: زيّني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك! فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك!».
وإذا أردنا العودة إلى الصور الأولى عن تاريخ الشطحات نجدها عند إبراهيم ابن أدهم وعند رابعة العدوية، ثمّ تتخذ أول صورة واضحة كلّ الوضوح عند أبي يزيد البسطامي -ت 261 هـ / 875 م - ثمّ يفصّل الحلاج القول فيها ، ويحللها تحليلاً نفسياً موغلاً في العمق ، والشبلي يشير إليها مراراً وبعد الشبلي تندر أحوال الشطح في التصوّف الإسلامي ، وينحدر مستواها . فالشطحات المنسوبة إلى الجيلاني والرفاعي وابن عربي لا تكاد تبين إذا قورنت بشطحات أسلافهم الكبار .ومن هنا نرى أنّهم قد وقفوا من هذه الشطحات موقفهم المنبثق من الكتاب والسنّة وإشارتهم لوجوب التفريق بين المعنى المستقرّ ّفي القلب وبين الشطح الذي هو قول باللسان فانّ المعنى المستقر في القلب عمل لا إرادي ينفجر في ذات العارف لا يملك ردّه ولا جلبه وهو شيء حسن صحيح بل هو دليل تحقق الإنسان بمقام المعرفة وإنما الذي يجب أن نقف منه فنحكم عليه هو اللفظ المترتب على المعنى الحاصل في القلب فالشطح هو إذاعة السرّ القلبي وليس حصول السرّ القلبي والشطح تعبير عن حاصل لا ادّعاء لما هو ليس بموجود فالشطح ظاهره مستشنع لكن باطنه صحيح مستقيم. فالشطح للقول لا للمعنى الحاصل في السرّ. قال الفيلسوف الراحل عبد الرحمن بدوي: «إنّ الصوفي تدرّج في معراج السلوك ففنى عن كلّ ما سوى الله، وتطهّرت روحه عن كلّ ما لا ينتسب إليه، فصار في حال فناء عن وجود السوي، وشهود السوى، وعبادة السوي، وتجلّى له الحقّ لأوّل وهلة، فلم يصبر على ما شاهد، بل اندفع يصرخ وهو سكران بالرؤية: أنا أنت».

فالصوفي يشطح في حالة سُكر وغيبة لا في حالة صحو، توجب العقل، والشطح يُبرّر بأنه كلام يُؤول، فهو إشارة ورمز، وعبارة الحلاّج مثلاً (أنا الحقّ) يمكن أن تُؤوّل: (أنا صورة الحقّ الخالق) ، وحين يقول الصوفيون كلمات مثل (إنّنا نرى الله) و(إنّنا لا نخاف الجحيم ولا نشتهي الجنة)، فهذا ليس كفراً، لأنّ المعنى الحرفي فيها غير مقصود، فالصوفيون أهل غيبة عن الحسّ، والواردات تملكهم، وتملك نطقهم وهذا مبعث الشطح. يدافع ابن خلدون عن الشطح بقوله «وأمّا الألفاظ الموهمة التي يُعبّرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أنّ الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور».
وحين نتصفّح ورقات كتابنا هذا نرى صاحبه قد حدّد بداية راهنية الإشكالية والتمهيد لها بإيراد من كتب في قضية الشطح من حيث التعريفات وتشابكها ليمرّ الى تعريف الشطح عند الطوسي –ت 378ه-ثمّ ابن عربي –ت 638ه-ليتوغّل بعد ذلك في فتح قلب الشاطح وقراءة وجدانه وعقله منقّبا عن شكل الخطاب الشطحي ثمّ متنه مستحضرا معاني المعرفة وموضوعها ومصادرها وملامح الكشف وتعقيدات وحدة الوجود عبر الصوفيّة والمستشرقين كذلك.

وبعد ذلك استغرق في أمداء الشطح –أمداء جمع مدى-للخوض في المجالات الرحيبة الفسيحة التي يفتحها الشطح بما يتوفّر فيه من كثافة الرمز وتلاعبات باللغة وتوليد الألفاظ لجمّ المعاني فصار مخرجا يعبّر عن الحال والمقال الصوفي، فالحكم على المقال كان تبعا للحال التي تعتري الصوفي، وتسمى بحال الفناء، وهذه التجربة الروحية الخالصة لا يعيشها الأديب ولا يمر بها، فضلا عن كونها تسلبه عقله فينطق بما لا يدرك.
وأفرد الدكتور الغزّي جزء كبير ا لروزبهان بقلي الشيرازي -ت 606ه -الذي يرى في فرادة أن الشطح جزء تكويني من الإسلام في كتابه «شرح الشطحيات» وبالتالي معمّما في القرآن والحديث النبوي وأقوال الصحابة والتابعين فكما أنّ القرآن وغيره حمّال أوجه فذلك ما يؤكّد ثراء العيّنات التي صاغها لتثبيت تعميمه.
وفي الجزء الأخير عاد للتأليفية بين الشطح والتأويلية وبين التظليل والتضليل وبين المعنى وفائض المعنى ..ليخلص إلى عالم عميق مشبع بالانعتاق اللغوي والمعنوي اسمه «المعنى الجديد» ذلك المعنى الجاري من عيون ّ ذوق المعرفة الإلهية التي هي خمر الصوفيين تؤدي إلى سُكْرهم وغيبتهم، وتحت السطوة الهائلة لهذه الخمر لا يملك الصوفي إلاّ أن ينطق بما يعرف دون أن يُحسّ، فهو يهذي، ويرمز، ويشطح في أفكاره وكلماته بعيداً، فالصوفية شطح من الظاهر إلى الباطن، ومن الشريعة إلى الحقيقة، ومن التعدد إلى الوحدة، ومن تعدد الأديان إلى الله الواحد، إنّ هذا الشطح الفكري يحتاج إلى شطح تعبيري يصفه ويُحاكيه، ، فالشطح تحرّك نفسي، وجسدي، وعقلي قبلَ أن يكون تحرّكاً لغويّاً، فهو غلبة الوجد والسُكر بخمر المعرفة على الصوفي، هو غلبةٌ على جسده مثلما هو غلبةٌ على عقله وقلبه، وعنصر الحركة كامنٌ في الشطح، ففي الشوق إلى الله حركة،
وهكذا كان الدكتور ثامر الغزّي ذلك الغوّاص في أغوار الصوفية وهم يتكلّمون أو يكتبون أو يتواجدون أو يشطحون أو حتّى في صمتهم يولّد منهم ثورة في النصّ وثورة في اللغة وثورة في المعنى

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115