قهوة الأحد: وجوه من الإبداع (25) غازي الزغباني ،المسرح والتمرد على الممنوعات

حمل الفن والإبداع بشكل عام على مدى تاريخه الطويل شحنة كبيرة من الثورة على الأنظمة السائدة والتقاليد البالية .فقد اشتغل الفنانون والمبدعون على الجمال وعلى قدرتهم

على الوصول إليه من خلال أعمالهم. والجمال كمفهوم لا يمكن أن يشبه الواقع بمآسيه وآلامه ورداءته .وكانت أعمالهم محاولة للقطع مع السائد والتمرد على مبادئه ومؤسساته ونسقه القيمية .

كما انهم سعوا في أعمالهم إلى الحلم بالزمن القادم وبطوباوية نهاية الرداءة ووصول الإنسان إلى المجتمع المثالي كمفهوم فني واستيتيقي قبل أن يكون مشروعا سياسيا أو إيديولوجيا .
وهذه العلاقة بين الفن والتمرد في التاريخ الإنساني جعلت المبدعين والفنانين في صف الثورات وحركات التغيير الاجتماعي .وقد صاحبت المبدعين على مدى التاريخ إرادة التحرر والانعتاق وسيشكلون القلب النابض لمسار التغيير الاجتماعي.
وقد وجدنا هذا التمشي وروح التمرد في التجربة الإبداعية التونسية التي جسدها العديد من المبدعين والفنانين والذين تعرضوا بالنقد لجملة الممنوعات في الثقافة العربية الإسلامية من ضمنها الجسد،والجنس والمرأة والدين.وتدعم هذا التوجه في السنوات الأخيرة وخاصة بعد الثورة التي فتحت مجالا كبيرا من الحرية للمبدعين .فظهرت هذه الثورة وهذا التمرد وهذه الإرادة للقطع مع الموروث التقليدي مع العديد من الفنانين الشباب .
وكان المسرحي غازي الزغباني،احد أهم ممثلي هذا الجيل الجديد من المبدعين المتمردين .

التمرد منذ النشأة
كانت الولادة في صفاقس إلا أن غازي الزعباني صاحب الوالد الذي - كان يشتغل متفقدا للتعليم - في حله وترحاله حيث تنقل في عديد المدن من صفاقس إلى سبيطلة إلى المحرس إلى أن استقر نهائيا في مدينة قرمبالية .
وفي كل هذه اللحظات كانت لغازي الزغباني أنشطة ثقافية في المعاهد ودور الثقافة حيث اكتشف المسرح وبدات علاقته بالخشبة وبالأضواء .

في نفس الوقت فتح المسرح لغازي الزغباني باب التمرد والمعارضة .ففي سنة 1989 وأمام رفض معتمد المحرس والسلطات الثقافية الجهوية اعطاهء مع بعض أصدقائه فضاء للنشاط الثقافي وضع آنذاك حزب الديمقراطيين الاشتراكيين على ذمته مقره في الجهة للنشاط الثقافي . فأصبح هذا المقر – بسرعة - قبلة لشباب الجهة أمام الفراغ الثقافي السائد.وأصبحت هذه التجربة مهمة وصار الحزب المعارض في فترة قصيرة صاحب شعبية كبيرة لينتقل أمينه العام في ذلك الوقت السيد محمد مواعدة إلى المحرس ثم تكونت الشبيبة الديمقراطية والتي اصبحت قوة سياسية فاعلة في المنطقة .

وقد كانت لهذه الأنشطة ولهذا التمرد الشبابي البكر انعكاسات على وضعية والده إلا انه احترم اختياراته السياسية ولم يتدخل يوما في قناعاته وأنشطته .
وقد ساهم عمه المرحوم الجامعي والروائي كمال الزغباني في زرع بذرة التمرد في ابن أخيه .فكان لغازي بمثابة الصديق الذي فتح له أبواب العاصمة ومثقفيها ليصبح منذ صغر سنه جليس الفيلسوف سليم دولة والشاعر محمد الصغير أولاد احمد وغيرهم من المثقفين الصعاليك في المدينة .
ثم مكنته العاصمة من أين يؤم المسارح وقاعات السينما ليصبح الفن والإبداع تدريجيا خيار حياة.

• التمرد لغة المسرح:
تدعم التوجه للفن والإبداع عند غازي الزغباني اثر حصوله على شهادة الباكالوريا واثر تردد قصير في الاختيار بين المسرح والسينما اتجه إلى المعهد الأعلى للمسرح لقناعاته بأن الفن الرابع يفتح كل مجالات الإبداع الأخرى .
وعند تخرجه سنة 2002 وخلافا لكل زملائه لم يتجه الى التدريس في المعاهد الثانوية بل اختار دخول مغامرة الإبداع والإنتاج .وسيقوم بتأسيس شركة «لارتيستو»(l’artistou) والتي ستحمل كل مشاريعه الفنية والإبداعية .
وجسد غازي الزغباني في كل أعماله الفنية اختياراته وتأثره بمسرح العبث أو «théâtre de l’absurde» الذي ظهر اثر الحرب العالمية الثانية والذي شكل قطيعة مع المسرح من حيث المواضيع ومن حيث الكتابة المسرحية.فقد طرح هذا المشرح قضايا الإنسان وعبثية التجربة الإنسانية خاصة بعد صعود النازية والمآسي التي عاشها الإنسان في هذه التجربة .كانت هذه التجربة صادمة ودفع هذا التوجه المسرحي الجديد إلى طرح أسئلة عامة تخص الوجود الإنساني ومستقبل تجربته في العالم .

أما من ناحية الكتابة فقد انخرط المسرح العبثي في قطيعة مع العناصر التقليدية ليؤسس لتعبيرة مسرحية جديدة تتميز بغياب حكاية واضحة أو بغياب التواصل بين المشاهد .كما قدم لنا هذا المسرح شخصيات حائرة وخائفة وغير قادرة على التواصل مع الآخر .
وكان لهذا الاتجاه المسرحي تأثير كبير على الساحة الإبداعية في أوروبا ومن أهم رواده أوجان يونسكو (Eugène Ionesco) وصاموال بكيتSamuel Becket)) وجون جيني (Jean Genet) وجورج شهادة وهارولد بنتار (Harold Pinter) وغيرهم .
وقد تأثر غازي الزغباني تأثرا كبيرا بمسرح العبث وبالتساؤلات الكبرى التي طرحها على التجربة الإنسانية كما اهتم بالثورة والتمرد التي دافع عنها هذا المسرح أمام التقاليد البالية وجملة الممنوعات وسيكون هذا الاتجاه وهذه الكتابة طريقة في تجربته المسرحية.إلا انه اعطى لهذه الأسئلة العامة حول التجربة الإنسانية بعدها المحلي لتكون مسرحياته واقتبساه لكبرى النصوص المسرحية العالمية عبارة على حوار بين المحلي والكوني .

قد انطلق في مغامرة الإنتاج منذ سنة 2003 بمسرحية للأطفال .ثم بدأ غازي الزغباني في اقتباساته مسرحيات أهم رواد مسرح العبث وكانت الانطلاقة سنة 2005 مع المسرحية الشهيرة «la cantatrice chauve» أو «المغنية الصلعاء» ليونسكو .
اكتشافه في هذه البدايات من زينب فرحات وتوفيق الجبالي اللذان استضافاه في التياترو حيث قام بإعداد وإخراج عديد الأعمال من ضمنها «عشقة جاد» سنة 2008.

ثم جاء اللقاء مع رجاء فرحات الذي ساهم بطريقة هامة في فتح افاق جديدة لغازي الزغباني .فقد مكنه من منحة فنية إلى كوريا الجنوبية. وقضى غازي الزغباني 6 أشهر في المسرح الوطني في سيول كانت هامة في نحت تجربته الفنية والشخصية .فقد زار كل المسارح واهتم خاصة بتجربة المسارح الصغيرة أو théâtre de poche والتي كانت نقطة انطلاق للقيام بنفس التجربة في بلادنا .وقد قام غازي الزغباني بإعداد مسرحيتين أثناء إقامته هناك في المسرح الوطني وهي «طريق الحرير» (Silk Road) وصدى العالم «Echos of universe» .

ومنذ عودته خاض غازي الزغباني عديد التجارب المسرحية مثل مسرحية «وزن الريشة» (poids plume) سنة 2008 والتي تم عرضها في عديد البلدان والمدن مثل بيروت وبغداد وسوريا وباريس والأردن .ويعمل الآن على تحويلها الى فلم سينمائي .
كما شارك في مهرجان افينيون في فرنسا سنة 2007.

ثم قدم مسرحية «الطرح» لجان جيني (Jean Genet) سنة 2009.ثم تم تكليفه من المسرح الوطني بإعادة اقتباس اول مسرحية ثم عرضها بتونس وهي مسرحية «صدق الإناء» لكاتب مصري والتي تم عرضها في إطار احتفالية مئوية المسرح التونسي .
ثم جاء أهم قرار لغازي الزغباني وهو بعث مسرح صغير خاص ليقدم فيه أعماله.و قد تزامنت هذه الفكرة مع قرار صاحب مطعم صغير كان يؤمه غازي الزغباني بيعه.فاقترح عليه شراءه وبعد تردد قبل صاحب المطعم الفكرة ليصبح المطعم مسرحا اسمه «لارتيستو»(l’artistou) في ناحية لافيات في قلب العاصمة التونسية .
ومنذ ذلك التاريخ أصبح «لارتيستوا» حاضنا لكل برامج ومشاريع غازي الزغباني الإبداعية ولمجموعة من الممثلات والممثلين مثل نادية بوستة وممد حسين قريع والعديد من الفنانين والتقنيين .

وكانت البداية في افتتاح هذا الفضاء مع مسرحية «عودة نهائية» (retour définitif) يوم 8 ديسمبر 2010.وبعد أيام ومع انطلاق الصورة سيصبح لارتيستو مكان لقاء الفنانين والمبدعين للتفكير في إعادة بناء المشروع الفني .وقد اعطت هذه الفترة الجيدة والحرية التي فتحتها دفعا جديدا لأعماله وشحنة جديدة لانتاجاته.
وقد قام في 2013 باقتباس مسرحية «الدرس» للفرنسي جونو (Genet) والتي تطرح قضية التعصب والانغلاق الفكري والذي قاد إلى رفض الآخر ومحاولة تصفيته .وقد اختار غازي الزغباني هذا النص نظرا للمخاوف التي بدأ يطرحها الوضع السياسي والمخاطر الكبيرة التي بدأت تحوم حول تجربة التحول الديمقراطي ومدنية الدولة أمام محاولات اسلم المجتمع للاسلام السياسي والعنف والاغتيالات السياسية التي انطلقت فيها الحركات الجهادية .وكانت هذه المسرحية تنبئ بانفجار الوضع والتي ستقود بعد بضعة أسابيع إلى اغتيال الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي .وكان لهذا العمل صدى كبير لا فقط في بلادنا بل كذلك في عديد البلدان العربية مثل العراق والأردن .

ثم سافر غازي الزغباني الى الأراضي الفلسطينية حيث قضي 3 أشهر في رام الله فيها ساهم في اقتباس مسرحية «روميو وجوليات» مع مسحريين فلسطينيين وتم غرضها في مدينة أسن في ألمانيا في مهجران مختص في مسرح شكسبير.

وعند رجوعه إلى تونس خاض تجارب أخرى منها اقتباس مسرحية» نيكزاسوف» (Nikrasov) لسارتر سنة 2014 و»coincidence» سنة 2016 و»روميو وجوليات»لاختتام أيام قرطاج المسرحية إلا أن هذه التجربة عرفت منعرجا كبيرا بعد النجاح الجماهيري العريض لمسرحية»الهربة» عن نص لحسن الميلي وتمثيل نادية بوستة وغازي الزغباني ومحمد حسين قريع ليصبح أحد أهم المسرحيين في بلادنا .
وواصل غازي الزغباني العمل بنفس النسق حيث انتج «سيكاتريس» سنة 2018 و»طروف» سنة 2019 و»صفقة» سنة 2020 وهي اقتباس نص للفرنسي كولتاس .

تعددت التجارب المسرحية وتنوعت منذ البدايات إلا ان مسرح غازي الزغباني بقي محافظا على نفس النفس التجديدي على طرح الأسئلة الحارقة والتمرد عل الممنوعات .وهكذا ساهم في إعادة كتابة مسرح العبث من خلال طرح الأسئلة والحيرة الكونية للإنسان التي تؤثث روادها في اطار مجتمعنا والحيرة والخوف أمام الأزمات .إلا أن تجربة غازي الزغباني ساهمت في بناء وإعادة إحياء المشروع السياسي وخصوصيته وفي عدم التراجع في مواجهة الموروث التقليدي والممنوعات التي يحددها ليكون المسرح إلى جانب السياسة مجالا للحلم والإبداع .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115