منبــــر: 25 جويلية في ضوء السياق السوسيو-سياسي

إن متابعة الأحداث الجارية تطرح أسئلة كثيرة بحثا عن أجوبة وعن فهم لكل ما يجري. فإجراءات 25 جويلية لا يمكن فهمها من زاوية قانونية ودستورية فحسب،

بل أن القراءة السوسيو-سياسية للسياق الذي تأتي فيه يمكن أن يساعد على الفهم، خاصة وأن متغيّر 25 جويلية لم يأت من فراغ بل هو نتاج لسيرورة فعل سياسي جديد وفي تشكّل مستمر منذ 2019، ولوقائع سوسيو-سياسية تبلورت خلال مسار انتقال ديمقراطي في تعثّر. فالنزاع على السلطة وانسداد الوضع السياسي والتجاذبات حول الحكومة والنزاعات في البرلمان، جميعها عناصر وسّعت الهوّة بين الحاكم والمحكوم وعمّمت الاستياء، وهو ما أنتج احتجاجات متكررة آخرها يوم 25 جويلية. 

25 جويلية، كانت اللحظة المواتية لأي فعل سياسي في وضع مأزوم. وهي لحظة امتصت الغضب وحوّلته إلى حالة من أمل لجمهور واسع من التونسيين الذين ضجوا بالأوضاع السياسية. كما أن استغلال تلك الحظة السياسية لا يمكن أن يكون دون تفكير مسبق أو دون اقتناص للحظة الصفر. فكل الكلمات التي توجّه بها الرئيس للشعب قبل ذلك التاريخ، كانت تدل على بحث عن خروج من الأزمة وبحث للانتصار لمسار جديد يسعى للتبلور. إنها لحظة تجسّد فيها سلوك «الرجل-الشعب» بتعبير روزنفالون. فالرئيس قد وضع نفسه منذ تولّيه الرئاسة في موقع الحامي للشعب والمجسّد للإرادة العامة. وتكراره لكلمة الشعب في خطاباته يأتي وفق تصوّر ما للشعب، ووفق تمشّ نجده عند الشعبويين بشكل عام. فالشعب مفهوم تعبوي يُبنى في إطار المنازعة السياسية التي ينتظم المجال السياسي حولها، وهي التي «تحدّد الشعب بما يجعل منه تشكيلٍ خَطابي داخل المجال السياسي نفسه وليس اسماً لموجود موضوعي» (موريس عايق). فـ «الشعبوية عبارة عن منطق سياسي يستند إلى استراتيجية سياسية تقسم المجتمع إلى جماعتين: النظام (النخبة) والشعب، ويتشكل هذان القطبان حول حدود المنازعة السياسية نفسها. وأن المنازعة السياسية التي تشكل المجال السياسي برمته تُشكل بدورها الشعب»، (أرنتستو لاكلاو).

لا اختلاف على تقييم الوضع السياسي لما قبل 25 جويلية ولا اختلاف على أن تلك الإجراءات التي باركها طيف واسع، قد عبّرت عن طموحات ومطالبات الكثيرين ممن نزل للشارع ليحتج يومها وقبلها، فشعار «ديغاج» قد رفع في وجه الجميع بما في ذلك في وجه الرئيس نفسه خلال زيارته للرديف قبل أيام من عيد الجمهورية. فقد كانت الجموع الهادرة تهتف بإسقاط المنظومة كاملة، والمتغيّر الذي حدث هو انتصار أحد مكونات المنظومة لتلك الهتافات. فالرئيس تموقع منذ البداية، داخل وخارج المنظومة، ودلالات ذلك كثيرة ومجسّدة من خلال سلوك سياسي جديد. وهو ليس فقط، سلوك خاص بالرئيس بل يتجاوزه لفاعلين اجتماعيين ينتمون إلى تيار شعبوي بدأ يظهر بشكل جلي مع انتخابات 2019، التي لم تؤشر فقط، على عزوف طيف واسع من الناخبين بل حملت معها مؤشرات تحيل على تغيير في مستوى السلوك السياسي.

ظهر السلوك الأوّل، في الدور الأوّل للرئاسية من خلال توجّه طيف هام من الشباب للانتخابات الرئاسية دون سواها. وهو سلوك «عقابي» ورافض للطيف الحزبي، اعتمد على استثمار وسائل التواصل الاجتماعي لشيطنة النخب الحزبية والدعاية لمرشح «منفرد» قدّمه كونه بلا سند حزبي وقويم السلوك وحاملا لمشروع مختلف يهدف من خلاله إلى إصلاح «الديمقراطية المشوهة»، وتجذيرها في المجتمع من خلال خلق «مجتمع القانون» ومنح السلطة ولو رمزيا، للجموع التي تمّ تهميشها على امتداد 10 سنوات. أما السلوك الثاني، فتجسّد من خلال استراتيجية اتصالية تستند على العناصر التالية: القرب، تحريك المشاعر وشيطنة الخصم، الاستثمار في حالة الاستياء، التُقية والغموض. وهي آليات «عقل يطمح للتغيير» اتجه إلى عملية «بناء للشعب». وتطلب ذلك، عناصر تواصل تقوم على خطاب يميّز بين «النحن والهم»، «الحقيقي والمزيف»، «الفاسد والنظيف»، «قهوة الكابيسان/ اللقاءات البسيطة والتظاهرات/ اللقاءات المركبة»، «الصادق البعيد عن الأحزاب والكاذب المنتمي»، «الصريح/ بلا وعود انتخابية والزيف/ له وعود انتخابية»...الخ. هذه الثنائيات جميعها، كانت لإقامة التمايز بين هويتين جماعتين مختلفة. وهي عملية اتصالية تستند على معايير أخلاقية وقيمية لغاية بناء الشعب الذي يقع في حدود المنازعة السياسية، وإقامة علاقة تكافؤ بين مطالب الجماعات المتباينة تكون حائزة على لغة مشتركة.

استمر استعمال تلك الثنائيات بعد وصول الرئيس للحكم الذي حافظ على نفس الاستراتيجية الاتصالية لحملته، أي «القرب والمباشرتية» و»الاستثمار في الغضب» و»رفض الوسائط» (بما في ذلك الإعلام الذي يتواصل معه عبر للفايس بوك)، و»تجاوز الأحزاب»، حتى أن المشاورات حول اختيار اسم رئيس الحكومة قد تمت بشكل غير مباشر من خلال إرسال مقترحات أسماء غبر البريد. وكثيرة هي المرات التي ميّز فيها الرئيس من خلال سلوكه السياسي بين «الشعب كجسد اجتماعي» غير منظم و»الشعب كجسد مدني» مهيكل في جمعيات وأحزاب ونقابات. وهو تقسيم نجده عند كل الشعبويين يميّز من خلاله بين «الشعب الحقيقي» و»الشعب المزيّف» الذي يمثل بشكل من الأشكال الأوليغارشية التي تمتلك السلطة. ولئن احتاج رئيس الجمهورية يوم 26 و27 جويلية لبعض تنظيمات المجتمع، فإن الغاية ليست التشريك والتشاور بل هي رسائل طمأنة للداخل والخارج كخطوة كان يحتاجها، وهذه فرضية أسوقها لأنه لا شيء يفيد، وجود توجّه نحو التشاركية التي نادت بها الجمعيات والمنظمات وعلى رأسها الاتحاد، بل أن كلمة رئيس الجمهورية الموجهة إلى عموم الناس عن طريق المكلّف بتسيير وزارة الداخلية مؤخرا، تؤكد أن الحوار سيتم مع «الشعب والشباب»، هذا بالإضافة للقاموس الحربي الذي استُعمل في مواجهة للخصوم الرافضين لإجراءاته. وهو قاموس لغوي، ديني وأخلاقي، استعمل لغاية الحفاظ على نفس التمشي الذي يميّز بين من «مع الحق» ومن «مع الزيف». والحق هو ما يقوم به الرئيس الذي «سيطهّر» الدولة والقضاء من الفساد. هكذا هي الشعبوية، كظاهرة سوسيو-سياسية، تدّعي تمثيلا ما للشعب الذي يخوض نزاعا مفترضا مع النخبة التي تحكم-حكمت أو تلك النخبة التي تنتمي لجماعات متنفّذة أو مهيكلة في المجتمع.

باختصار، إن السياق الذي جاءت فيه إجراءات 25 جويلية يشهد صعودَ تيار شعبوي وملمح محافظ وانفعالي وسيادي يجسّده الرئيس. وهو سياق مختلف عمّا عرفناه منذ 2011، لأننا أمام تيار شعبوي تيارا له مشروع اجتماعي وسياسي ينشد التأسيس «لديمقراطية قاعدية» ويتّجه إلى تجذير الديمقراطية والتوجّه إلى نوع من الديمقراطية المباشرة أو المجالسية. وبعيدا عن استعمال الشعبوية كوصم سياسي للحط من الخصم، وقد استعملت كذلك منذ ظهورها في القرن العشرين، نحن إزاء تيار سياسي لا يسمّي نفسه شعبويا ولكنه يعتمد كافة آليات الاستراتيجية الشعبوية، كما نظّر أرنتستو لاكلاو وشنتال موف، حيث يعبّر فيها الفاعل السياسي عن أنطولوجيا الاجتماعي، أي عن الشكل الذي يوجد به المجتمع. وهنا يكمن المتغير الأساس الذي لا يجعلنا ننظر لإجراءات 25 جويلية بارتياح رغم تعبيرها عن جزء من طموحات فئات واسعة من الشعب. فهذا المتغيّر، أي الشعبوية كتيار سياسي، قد تمّ بناءه تدريجيا، من خلال الاستثمار في الغضب والاستياء والمحافظة على وتيرة نزاعية ومن خلال ذاك الفصل القسري بين مسار 17 ديسمبر و14 جانفي، وبين الحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وهو فصل مبني على منطق تعبوي يطمح إلى فسح المجال لدخول الغالبية إلى السياسة، بوصفهم فاعلا سياسياً جديدا وجهورا للرجل-الشعب.

ولئن أجمع الباحثون على صعوبة تعريف الشعبوية بشكل دقيق لأن مظاهرها متعدّدة، فإنه يمكن تعريفها من خلال خصائصها المشتركة، وهذا بمعزل عن طبيعتها اليمينية أو اليسارية. وتتلخص هذه الخصائص في الآتي: «سلوك معادي للنخبة، وبناء للشعب الذي يرتكز على تثمين كل مظاهر سلوكياته الغاضبة، ودعوته للتخلّي عن البرامج الحزبية، وتعويضها ببعد عاطفي مبني على القرب، والاستناد على زعيم أو على نمط سياسي مبني على الديماغوجية والتوعّد والحطّ من الخصم، وعلى موقف يعبّر عن قطيعة مع المنظومة القائمة، والتذكير الساذج بالفضائل الطبيعية للشعب وبقدرته على المثابرة والنشاط من أجل حكم نفسه بنفسه، والتوجه نحو تجذير الديمقراطية في محاولة لإرساء نوع من الديمقراطية المباشرة أو الجمعاوية، وتجاوز الهياكل الوسيطة وإحداث قطيعة بين الشعب كجسد مدني مهيكل وبين الشعب كجسد اجتماعي غير منظم ورفض التعدّد أو تحجيمه واحتكار الدفاع عن المعايير والأخلاق» . إن هذه الخصائص التي يمكن من خلالها التعرّف على الشعبوية، يمكن ملاحظتها بشكل واضح في سياقنا التونسي. وهو ما يضاعف التوجس والتساؤلات عن ماهية عالم جديد بصدد الولادة وعالم قديم بصدد الأفول.

إذن، نحن حيال زمن سياسي جديد ودقيق، وهو زمن فيه توجه جدّي لتهمبش دور الأحزاب وكل الأجسام الوسيطة، وفيه فاعل سياسي جديد غير متجانس ومنفعل. وهو «الشعب-الجمهور» كتيار شعبوي. وهو ما يجعل المعادلة السياسية صعبة ودقيقة. وما لم تستطيع الأحزاب كسب ثقة أطياف من هذا الجمهور المتقلب، فإن دورها سيكون في الهامش. كما أن انزلاقات الشعبوية خطيرة ومجهولة. وفي ظل هذه المتغيّر، للإعلام دور هام في خلق رأي عام حجاجي وعقلاني يمكّن من فرز المشاريع السياسية. كما أنه بات لزاما على الطيف الديمقراطي والتقدمي الاتفاق حول الإصلاحات السياسية واقتراح تصوراتهم من ضمن بقية المشاريع بما في ذلك، مشروع التيار الشعبوي، إلى جانب السعي إلى خلق قنوات اتصال بينهم وبين الرئيس لغاية التوصّل لعقد اجتماعي جديد يعبّر عن أوسع طيف سياسي واجتماعي ممكن، ويقلّل من الآثار الجانبية للشعبوية. وأعتقد أن مناصبة العداء للشعبوية سيعمّق الهوّة بين الفاعلين السياسيين والجماهير المنفعلة التي لا تفكّر. إضافة إلى أن الانسياق مع هذه الموجة لن يؤسس إلاّ للرأي الواحد وقد يلغي التعدّد والاختلاف. فالشعبوية بشكل عام عندما تصل للسلطة تعطّل «التوازنات داخل النسق السياسي وتتهم المعارضة، وتعطل دور المجتمع المدني» حسب مولر Müller، ولذلك، من الضروري، الدخول في حوار مع الشعبويين من خلال إعادة طرح سؤال حدود الديمقراطية وعوائقها من أجل تحريرها من الأوهام الشعبوية ومن خلال إعادة النظر في الديمقراطية التمثيلية وتخليصها من شوائبها، وهذا عمل ضروري.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115