قضايا جامعية: التعليم العالي التكنولوجي والبحث العلمي التطبيقي: الواقع والآفاق

رغم مرور قرابة ثلاثة عقود عن تاريخ بعث المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية ورغم النجاحات المحققة على مستوى اندماج هذه المعاهد في محيطها الاقتصادي والصناعي

وتشغيلية خريجيها إلا ان منظومة التعليم العالي التكنولوجي والبحث العلمي التطبيقي لا تزال تشكو العديد من الهنات الهيكلية على مستوى الحوكمة، الاستقلالية، النظام الأساسي ونظام تأجير الأساتذة. ومن بين مشاريع الاصلاح التي أرادت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تمريرها، نجد مشروع نظام أساسي موحد لكل الجامعيين يلغي خصوصية التعليم التكنولوجي ويهدف على المدى القصير الى إدماج المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية بالجامعات وعلى المدى المتوسط إدماج سلك التكنولوجيين في سلك الباحثين. 

1 - خصوصية التعليم العالي التكنولوجي
تختلف المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية عن سائر المؤسسات الجامعية بكونها متعددة الاختصاصات مما يهيئ لها أسباب التكامل والتعاضد بين مختلف الاقسام ويسهل الانفتاح على المحيط الخارجي حيث أن كل مؤسسة اقتصادية او صناعية تتطلب من ناحية كفاءات في التصرف والإدارة ومن ناحية أخرى كفاءات تقنية في المهن الاساسية (إعلامية، هندسة كهربائية، هندسة ميكانيكية، هندسة مدنية، صناعات غذائية....).
ويتميز التعليم العالي التكنولوجي بجانبه التطبيقي العملي والذي يرتكز اساسا على الأشغال التطبيقية التي تمثل معدل لا يقل عن 40 % من ساعات التدريس في كل مسالك التكوين ويفضي إلى شهادات تقوم على الجانب التطبيقي: إجازة تطبيقية وماجستير مهني في الصيغة العادية أو في صيغة البناء المشترك مع المؤسسات الاقتصادية والصناعية. وقد يذهب الظن أن المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية فقدت خصوصياتها منذ ان تخلت على تكوين التقنيين الساميين عبر شهادة الدراسات العليا التكنولوجية وانخرطت فعليا سنة 2008 في نظام إمد إلاّ أن الأمر غير ذلك فالانخراط في هذه المنظومة مثل استمرارية وتم بصفة طبيعية ووقع الحفاظ على نمط التكوين الخاص المرتكز على الجانب التطبيقي والتربصات: تربص عامل (السنة الأولى) تربص تقني (السنة الثانية)، تربص ختم الدروس (السنة الثالثة) وكل ما يتطلبه من مهام للتأطير (أمر 92 المؤرخ في 16 نوفمبر 2001) إضافة إلى التأطير المباشر للطلبة، تأطير المشاريع المنجزة خارج اوقات الدروس، مناقشة الاشغال وإعداد الاشغال التطبيقية والمهام داخل المخابر.
وقد نجحت المعاهد في فرض هذه الخصوصيات وأداء مهمتها الأساسية المتمثلة في التكوين بفضل انفتاحها على محيطها ومنسوب الثقة المكتسبة لدى الصناعيين الذين يشاركون بصفة فعالة في صياغة البرامج وبفضل التجديد البيداغوجي والخبرة المتراكمة لدى التكنولوجيين الذين تعمّقت لديهم مشاعر الانتماء لمنظومة التعليم العالي ببعث شهادات الماجستير المهني.
إن الحفاظ على كل هذه الخصوصيات وتطويرها لا يكون إلا بتطوير البحث العلمي التطبيقي لأنه أساس النهوض النوعي بالتعليم العالي التكنولوجي.
2 - سبل النهوض بالبحث التطبيقي
البحث العلمي التطبيقي هو أحد التصنيفات المتعلقة بالأبحاث إلى جانب البحث الاساسي والبحث التنموي ويعتمد على منهجية خاصة تقوم على حل مشكل قائم وتطبيق التوصيات المبنية على نتائج محددة. هو بحث ينبع من واقع المؤسسة الاقتصادية أو الصناعية ويعتمد على الوسائل المتاحة المحدودة بطبعها. وقد تحققت بعض المكاسب على مستوى النصوص المرتبة للبحث العلمي لسلك التكنولوجيين:
- قرار وزير التعليم العالي والبحث العلمي المؤرخ في 05 ديسمبر 2019 ويتعلق بضبط معايير اسناد منحة التشجيع على الإنتاج العلمي ومقاديرها.
- عضوية أستاذ تكنولوجي بالهيئة الوطنية لتقسيم أنشطة البحث (أمر عدد 2311 سنة 2005 – فصل 7 جديد)
ولم يتم في هذه النصوص اعتماد الفصل بين البحث الأساسي والبحث التطبيقي والبحث التنموي رغم أن المنظومة البحثية في تونس هي أساسية في الجامعات وتنموية في الأقطاب التنموية والتكنولوجية ومراكز البحث وتطبيقية في المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية ومدارس تكوين المهندسين.
ولم يحقق البحث العلمي التطبيقي النتائج المرجوة على المحيط الاقتصادي ويرجع هذا للعديد من العوامل: أولا عوامل اقتصادية تهم نمط الاقتصاد ومنوال التنمية المرتكز أساسا في القطاع الصناعي على وحدات إنتاجية ذات محتوى تكنولوجي إمّا بسيط أو مستورد غير قابل للتطويع والتطوير محليّا، ثانيا التعامل السلبي لأصحاب المؤسسات الذين يرفضون غالبا توفير المعطيات الخاصة والصحيحة وفي أحسن الحالات يوفرون معطيات تنمق الحقيقة الاقتصادية ولا تساهم في إنتاج بحث علمي ذي جودة. ثالثا بالنسبة للمعاهد العليا للدراسات التكنولوجية عدم توفر مسالك للارتقاء عبر شهادة تثمن البحث التطبيقي وغياب لهياكل ووحدات البحث مع عدم التخفيض في ساعات التدريس إثر الارتقاء الذي بقي يخضع إلى مقاييس غير واضحة تمزج بين البحث التطبيقي والأساسي ونقل التكنولوجيا والخبرة البيداغوجية. وقد ساهمت كل هذه العوامل إلى غياب ثقافة البحث العلمي التطبيقي في شبكة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية والتي يجب علينا بناءها عبر:
- بلورة استراتيجية بحث علمي قوامها حاجيات المؤسسات الاقتصادية والصناعية ومستمدة من سياسة واضحة حول نمط الاقتصاد.
- ضرورة إرساء منظومة للبحث العلمي التطبيقي داخل شبكة المعاهد بتراتيب واضحة ومهام دقيقة وتعميم هياكل ووحدات البحث التطبيقي.
- التفكير في بعث شهادة تثمن البحث التطبيقي وتحفز التكنولوجيين كشهادة التأهيل الجامعي لتسيير البحث التطبيقي.
- انخراط التكنولوجيين في نشاطات وبرامج الوكالة الوطنية للنهوض بالبحث والتجديد خاصة الأليات المرتبطة بالبحث التطبيقي آلية MOBIمثالا.
3 - إصلاح القانون الأساسي
يتميز القانون الأساسي لسلك التكنولوجيين (أمر 93-314 لسنة 1993 وتنقيحاته 2001-92 و2009-644 و2012-1718) بتغليب مهمة التكوين والتأطير على مهمة البحث التطبيقي ونقل التكنولوجيا حيث حددها إلى 24 ساعة أسبوعيا وذلك دون تحديد البحث التطبيقي بصفة دقيقة والأخذ بعين الاعتبار ما تتطلبه هذه المهمة من مجهود مما أدى إلى عزوف العديد من الأساتذة والاكتفاء بالتدريس والتأطير.
ويجدر التذكير هنا أن الترقية في القانون الأساسي ترتكز أساسا على مقاربة الخبرة والكفاءة وتغيّب مكانة الشهادات العلمية وقد أثرت هذه المقاربة سلبا على كل المفاوضات حول المستحقات المادية لسلك التكنولوجيين في الزيادات العامة أو الزيادات الخصوصية للأجور. وعليه فإن إحداث شهادة جامعية كشهادة التأهيل الجامعي لتسيير البحث التطبيقي ستحفز التكنولوجيين معنويّا وماديّا على إنجاز بحوث تنمي الكفاءات وتسمح بالارتقاء والتدرج وتضع مهمة البحث العلمي التطبيقي في قلب المنظومة الجامعية. وفي هذا الإطار يمكن مراجعة مهمة التكوين والتأطير في اتجاه التخفيض في عدد الساعات عند الارتقاء في الرتبة وتحديد نوعية ساعات التدريس على مبدأ ساعات الأشغال التطبيقية.
أما بالنسبة للانتداب في المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية فالرجوع إلى شهادة التبريز، في صيغة جديدة، كشرط أساسي لحاملي شهادة الماجستير والشهادة الوطنية لمهندس سيعزز مقاربة الشهادات العلمية في القانون الأساسي ويؤدي إلى وجود إطار تدريس منسجم يحمل نفس الآفاق المهنية.
في الختام، يجب أن نؤكد أن إصلاح القانون الأساسي لا يمكن أن يكون إلاّ عبر الجامعيين، عبر هياكلهم المنتخبة البيداغوجية والنقابية وكل الخيارات التعميمية المسقطة بدون تشاور مع أهل المهنة بكل أسلاكها ستكون لها مآلات خطيرة على الجامعة والمجتمع.
إن عملية الإصلاح وإعادة البناء هي عملية ملزمة لكل الأطراف على المدى الطويل، نجاحها يتطلب تعريفا لمهمة الجامعة ومكانة البحث العلمي بمختلف مكوناته وبمختلف انتساباته ووضع إستراتيجية تنموية متكاملة وخيارات وطنية واضحة يكون محورها البحث العلمي كعامل أساسي لتطوير القطاع الصناعي والخدماتي وتمكن البلاد من اكتساب ميزات تفاضلية قوامها التجديد والابتكار والتحكم في التكنولوجيا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115