قهوة الأحد وجوه من الإبداع: رمزي الجبابلي : موسيقى الجاز ،الفعل الثقافي والتغيير الاجتماعي

لا تقتصر الساحة الإبداعية في بلادنا - كما في كل بلدان العالم - على الفنانين والمبدعين من سينمائيين وروائيين ومسرحيين وشعراء وغيرهم بل تشتمل كذلك

على العديد من الناشطين في الميدان الثقافي والذين يجعلون منه لا مجالا للعيش والعمل المهني كذلك إطارا للتغيير الاجتماعي والسياسي .ويشمل عمل هؤلاء الناشطين عديد المجالات من إنتاج ثقافي وتنظيم مهرجانات وتكوين شركات دعاية للمنتوج الثقافي وشركات انتاج فني وسينمائي.كما نجدهم في مجال التوزيع للإنتاج الفني والتنشيط والإشراف على الفضاءات الخاصة والتي عرفت تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة .ويتجاوز عمل هؤلاء الفاعلين الثقافي المجال المادي ليصبح انتماء للمجال الثقافي والإبداعي وقناعة بقدرته على المساهمة في التغيير السياسي وبناء الثقافة المدنية ومبادئ المواطنة .

وقد خصصنا في هذا التقديم لوجوه الإبداع في بلادنا مساحة لبعض الفاعلين الثقافيين في عديد المجالات .وسنهتم في هذا المقال برمزي الجبابلي أحد الفاعلين الثقافيين والذي كان وراء الحركية الثقافية وعودة الروح للمجال الإبداعي في إحدى أهم القلاع الثقافية في بلادنا وهي جهة الكاف .فقد عرفت هذه الجهة نشاطا وحركية ثقافية على مدى تاريخها .وقد ساهم المسرح الجهوي ثم مركز الفن الدراسي بالمدينة في هذه الحركية الثقافية إلى جانب بعض التظاهرات الأخرى كمهرجان بومخلوف .

إلا أن هذه الحركية شهدت بعض التراجع منذ بداية الألفية لتعرف بعد الثورة زخما جديدا وقد لعب رمزي الجبابلي إلى جانب بعض شباب الجهة دورا أساسيا في هذه الحركية من خلال بعث مهرجان «سيكاجاز» والديناميكية السياحية والاقتصادية التي صحبته في السنوات الأخيرة وشكلت هذه التجربة مثالا حيا ومهما على قدرة القطاع الثقافي على لعب دور اقتصادي ودفع التنمية في جهة عانت من التهميش والفقر .
والحديث مع رمزي الجبابلي ذو شجون ويأخذك بالكثير من العفوية والتواضع في هذه التجربة الثقافية المهمة والتي أصبح العديد يعتبرونها مثالا في مجال اللامركزية الثقافية والخروج بالنشاط الثقافي من المركز إلى الهامش .وعند الحديث عن خفايا هذه التجربة يبدو التقاطع كبيرا بين السياسي والثقافي والإبداعي .فالتجربة السياسية وحالة الفراغ الذي تعاني منه الجهة أثبتت لرمزي الجبابلي وشباب القصبة والجهة أن الفعل الثقافي يشكل الأرضية والقاعدة للتغيير الاجتماعي والسياسي .

كما أن هذه التجربة اثبت نتيجة مهمة وهي أن الثقافة الرفيعة والراقية يمكن أن تجد لها سبيلا إلى الجمهور الواسع والعريض .فقد عشنا طويلا على قناعة مفادها أن الشرائح الشعبية تأتي إلى الثقافة للترفيه وتطلب بالتالي إنتاجا استهلاكيا .إلا أن هذه التجربة أثبتت أن موسيقى الجاز الراقية والصعبة يمكن لها أن تجد آذانا صاغية ومستسيغة عند الجمهور الواسع .
وهكذا يمكن للثقافة أن تلعب دورا مهما في ترقية الذوق العام وتنميته .ولنعد قبل الخوض في التجربة الثقافية إلى تاجروين نقطة الانطلاق .

• النضال السياسي والانخراط في العمل الثقافي:
وانطلقت هذه المسيرة من تاجروين مدينة المولد حيث تحصل رمزي الجبابلي على الباكالوريا ثم انتقل الى العاصمة لدراسة العلوم القانونية وتحصل على الإجازة ثم على شهادة الدروس المعمقة في القانون العام والمالي .
ودخل رمزي الجبابلي إلى ميدان المحاماة سنة 1999 حيث رافع في أغلب قضايا الرأي العام إلى جانب رفاقه الشهيد شكري بلعيد وعبد الناصر العويني وفوزي بن مراد .
ومع هذا المسار الدراسي والمهني دخل رمزي الجبابلي معترك النضال السياسي منذ الدراسة الثانوية في اطار نقابة تلمذية ذات خط يساري .وتواصل هذا الانتماء والنضال في الجامعة حيث كان ناشطا سياسيا في صلب الاتحاد العام لطلبة تونس حيث سيكون عضوا في المكتب الفدرالي للاتحاد العام لطلبة تونس .
بعد الثورة ساهم في الحراك النضالي والزخم السياسي الذي عرفته البلاد بعد جانفي 2011.وكان على رأس قائمة القطب الديمقراطي في انتخابات المجلس التأسيسي لسنة 2011.
إلا أن هذا الحراك وهذه التجارب السياسية المتعددة وخاصة الحملات الانتخابية والعلاقة التي ربطها بالناس في جهة الكاف وأريافها مكنته من الوقوف على أهم تحد يواجه العمل السياسي ومشروع التغيير الاجتماعي وهو ضعف المخزون الثقافي مما ساهم في هيمنة المشروع التقليدي والمحافظ .وهذه القناعة قد دفعته إلى ترك العمل السياسي المباشر ولو إلى حين ليضع كل طاقاته في العمل الثقافي .

• الفعل الثقافي والتغيير الاجتماعي:
لم يكن رمزي الجبالبي قادما جديدا على المجال الثقافي إذ أنه إلى جانب شغفه بالإبداع منذ الصبا كانت له تجارب ثقافية مع راديو الجامعة ثم في التياترو إلى جانب توفيق الجبالي وزينب فرحات وعاطف بن حسين .كما نظم بعض العروض الفنية في فضاء الحمرا .
إلا أن تجربة الحملة الانتخابية للمجلس التاسيسي في 2011 كانت منعرجا حاسما في مساره الشخصي وتجربته .

وقد مكنته الاجتماعات التي قام بها في كل مناطق ومعتمديات جهة الكاف من الوقوف على الفقر والبؤس الثقافي الذي تعاني منه والذي شكل حاجزا أمام التغيير الاجتماعي ساهم في بقاء الوضع على حاله وعلى هيمنة الفكر التقليدي والمحافظ وسيصبح هاجسه الأساسي خلق أرضية ثقافية سيتكون حاضنة للعمل السياسي والتغيير الاجتماعي .
قد بدا الانخراط في العمل الثقافي في الجهة بتجارب مختلفة ومتعددة من ضمنها بعث مقهى مسرح الشمل في تاجروين وتنظيم عروض سينمائية ومسرحية بالتعاون مع مركز الفنون الدرامية بالكاف .

وكانت الانطلاقة الحقيقة والكبرى في مارس 2011 اثر تنظيم عرض موسيقى لأنور براهم في مارس 2014.واثر العرض اقترح عليه أنور براهم تنظيم مهرجان جاز في الجهة .وقد أخذ رمزي الجبابلي مع بعض شباب الجهة هذا المقترح مأخذ الجد وانطلقوا في الإعداد لهذا المهرجان وقد انطلق مهرجان «سيكاجاز» بعد بضعة أشهر فقط في مارس 2015.
ونجح «سيكاجاز» في شق طريقه في فترة صغيرة ليصبح احد أهم التظاهرات الفنية في بلادنا كما دخل في المسلك العالمي كموسيقى الجاز .

 

وإلى حد اليوم تم تنظيم 6 دورات للمهرجان وقرابة 60 عرضا لا في مسرح القصبة في مدينة الكاف فقط بل كذلك في أغلب القرى المجاورة .وقد نجح المهرجان في استقطاب عدد كبير من أهم فناني الجاز في العالم مثل أنور براهم ودافيد ميراي ،وكني قرات وتيرنسي بلانشار ويوكا وربيع أبو خليل وجيل الجلالة وغيرهم .
وقد نجحت هذه التجربة الثقافية المهمة في ان تصبح إحدى أهم تجارب الفعل الثقافي على المستوى الجهوي .وفي رأيي يعتبر نجاح «سيكاجاز» ونجاح العمل العام الذي قام به رمزي الجبابلي والناشطين في الجهة يكمن في ثلاث مستويات المستوى الأول هو فني وثقافي من خلال عمل المهرجان على تحسين الذوق العام من خلال إدخال موسيقى راقية وصعبة إلى جهة يرتكز مخزونها الثقافي على الموسيقى البدوية .وقد اتبع مهرجان إستراتيجية فنية ذكية تعتمد على تربية الأذن الموسيقية بطريقة تدريجية على هذه الموسيقى الجديدة على الجهة والنخبوية إلى حد كبير .فكان الاختيار على فنانين وعلى مشاريع قريبة من الإيقاع لتسهيل عملية تعاطي الجمهور الواسع مع هذه التجارب الموسيقية .
كما عمل المنظمون على الحديث مع الفنانين القادمين للتعريف بخصوصيات الجهة وأخذها بعين الاعتبار في اختياراتهم في حفلاتهم .

وكذلك عمل «سيكاجاز» على فتح آفاق جديدة للموسيقى المحلية من تنظيم اقامات فنية (résidence d’artiste) لموسيقيين عالميين للإقامة في مدينة الكاف والعمل على مزج موسيقاهم مع المخزن الموسيقي المحلي .
أما المستوى الثاني للنجاح فهو اجتماعي وسياسي .فقد ساهم هذا المهرجان من خلال احداث حركية اجتماعية احتفالية طيلة أيام التظاهرات بين شباب الجهة وأعداد كبيرة من الشباب القادمين من جهات وحتى من خارج الجهورية .وأصبحت الجهة خلال هذا الأيام فضاءا مفتوحا للاحتفال والحديث والنقاش حول الأمل والمستقبل .
أما المستوى الثالث للنجاح فهو اقتصادي .فقد نجح «سيكاجاز» في فترة قصيرة في خلق ديناميكية اقتصادية ودفع النشاط الاقتصادي في الجهة .فقد دفع التنامي الكبير للزائرين للجهة لا فقط في فترة المهرجان بل على مدار السنة في دفع النشاط السياحي والاقتصاد المحلي ودفع لاستثمار .فقد تعددت النزل والمطاعم ودور الضيافة والاقامات الريفية.وقد ساهم «سيكاجاز» في تنويع المنتوج السياحي للجهة من خلال تنويع المخيمات والمسالك السياحية .
وقام المهرجان من خلال عروض sicca live factory jazz بانجاز عروض فنية للتعريف بالمسالك الأربعة السياحية في الجهة وهي المسلك حول المناجم القديمة انطلاقا من مدينة الجريصة ومسلك الغابات والطبيعة ومسلك الأودية والسدود ومسلك المواقع الأثرية.وقد لعبت هذه الديناميكية الاقتصادية دورا مهما في دفع المواطنين على الانخراط في هذا الحراك الثقافي .

وقد شكلت تجربة رمزي الجبابلي والشباب حول مهرجان «سيكاجاز» تجربة مهمة في الحركة الفنية والإبداعية في بلادنا .فقد نجحت هذه التجربة في الخروج بالفعل الثقافي من العاصمة وفك العزلة على جهة كان لها دور كبير في السباق دور مهم في المشروع الثقافي في بلادنا قبل أن يأكلها النسيان والتهميش .
وكأغلب التجارب والمشاريع الإبداعية في بلادنا كانت هذه التجربة في تقاطع مع المشروع السياسي المدني والديمقراطي جعل من الفعل الثقافي أحد العناصر الأساسية للتغيير الاجتماعي .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115