المتهالكة التي تحيط بنا ، والتي تحاول تقديم نفسها لنا باعتبارها مثالا يُحتذى…
تونس ، عبر تاريخها العريق ، لم تقلّد بلدا ولا أحدا ، كانت نسيج وحدها ، وستظل هكذا ، لذلك تستطيع دوما أن تبهر حتى العاجزين عن الانبهار ولذلك تستطيع كل مرة أن تقدم لمن يريدون أن يلقّنوها الدروس ، دروسا مضادة يتلقونها صفعات على الخد الأيمن ولا يستطيعون تقديم الخد الأيسر إلا عند الضرورة والاحتياج لذلك فعلا…
تونس تخلصت من عقدة الخوف من أطراف دولية نافذة ومنظمات تدّعي الدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان بعد أن اقتنعت وآمنت بأن إقناع ذوي النيّات السيئة بنيّتك الحسنة أمر مستحيل ، وأن هذه الدول والهيئات التي تدعي أنها حقوقية أو تهتم بحرية الإعلام هي عبارة عن شركات هدفها الربح المادي أو المعنوي…
يكفينا هنا في تونس أن نواصل على المنوال ذاته من الإيمان بحقنا في العيش الكريم ، وفي إصلاح أخطائنا، وما على المستقوين علينا بالأجنبي ، إلا أن يواصلوا هذا الاستقواء ، فقد سمّى أجدادنا من كان يضع يده في يد المستعمرين قديما بـ»«القُومِي والصبايحي» ، ولن نشذّ عن هذه القاعدة التي ورثناها عن الأجداد والآباء الذين حرروا البلاد ، ولن نغير سنّة الله التي لن نجد لها تبديلا…
المسألة غير هيّنة وغير سهلة ، ويلزمها قليل من الكلام الهادئ والرصين لأن الموضوع ساخن ولا يتحمل تناوله النزق الذي يسببه «البوليميك» والانخراط فيه . ذلك أنه عندما تقرر أحزاب سياسية وأبواقها الدعائية التي تتخذ عادة شكل وسيلة إعلامية وخاصة تلفزية ، أن تصبح ناطقة غير رسمية باسم بلد أو طرف أجنبي ، تقطع خطوة كبرى جدا في الانفصال عن المحيط الوطني الذي نشتغل فيه.
المسألة اختيار؟ نعم ، والمسألة تندرج في تصور كل واحد للعمل السياسي والحزبي ، لكنها بالفعل خطوة غير هيّنة . وفي الغالب الأهم يؤدي المرتبطون بالأجنبي في نهاية المطاف ثمن هذا الارتباط عندما تعود العلاقات بين البلدان إلى سابق عهدها ويجدون أنفسهم على الرفّ ، رفّ الوطن الذي ينظر بريبة إلى كل من يؤجّر صوته للأجنبي بهدف تحقيق مكاسب داخلية .
في الأوقات الحساسة من تاريخ الإنسانية أو وقت الحروب أو غيرها يسمّى هذا الأمر خيانة عظمى وله عقوبة أكبر من الكبرى ، لكن في الأوقات العادية يمكن تناول الأمر بقليل من برودة النفس ويمكن اعتباره ضريبة من ضرائب هذا التشابك الكبير الذي باتت عليه العلاقات الدولية منذ انهيار حائط برلين وزوال المعسكر الاشتراكي السوفياتي . لكننا مع ذلك ملزمون بقولها: ولاء السياسي يجب أن يكون لوطنه أولا ، واحتراف السياسة وإدارة الشأن العام ليست مهمّة عادية إذ هي تقترب في كثير من تفاصيلها من المهن الحسّاسة التي يسمح لها بالخروج والتنقل في الحالات الاستثنائية لأنها تمارس دورا يقترب كثيرا من دور الجيش والأمن أي دور حماية الوطن داخليا وخارجيا من كل المخاطر .
البعض ينسى أو يتناسون ، والبعض يبرر اللجوء لمد اليد للأجنبي تحت يافطة العلاقات الدولية وتشابك المصالح ، وتلبية دعوات من هيئات ومراكز دولية للخوض في بعض المسائل المشتركة ، والبعض يعلنها مدوية بشكل واضح ووجه مكشوف ويقول «لقد بعت والسلام» ، لكن الأمر يبقى على خطورته الأولى : لا مجال للولاء المزدوج ، ولا ثقة في أصحابه ، تماما مثلما لا ثقة في الذين يضعون على سبيل الاحتياط جنسيات بلدان أخرى ويتحدثون لنا عن تونس وباسم تونس فقط حين تكون الأشياء تساير هواهم ، أما حين البأس فيقولون لنا إنهم ليسوا معنا ولم يكونوا معنا أبدا في يوم من الأيام .
اليوم صدق التونسيون والتونسيات ، وتحققت نبوءات من سكنتهم تونس قبل أن يسكنوها . اليوم الكل يقولون شكرا سيادة الرئيس على ما بادرت به من قرارات ننتظر استتباعاتها العاجلة ونتمنّى ألاّ تتأخر أكثر.
هي تونس التي تسري في العروق مسرى الدماء . وحين نتكلّم عن العروق والدماء ، لا يمكنك أن تكذب أو تنافق أو تعلن موقفا تحت الطلب مثلما يفعل جرحى الخامس والعشرين من جويلية وجوقة المهرولين للوبيّات العام سام وفيانا وعواصم أوروبية أخرى . عند الحب الحقيقي لا يمكنك التمثيل ويشهد الله اليوم أننا جميعا نشعر بذلك هذه الأيام: التونسيون والتونسيات لا يمثّلون حين حبون تونس ، هم يحبونها وانتهى الكلام …
إن بيت تونس رغم ما اعتراه من شقوق ، متينٌ بشعبه ومدنيّة دولته ونظامه الجمهوري ، والأجدى بالمتطاولين وباعة الضمائر والمستقوين على بلادهم بالأجنبي ، أن يكنسوا أمام بيوتهم ، ويتأملوا في هشاشة بنيانهم ، لأن ناطحات السحاب لا تُجدي نفعا مادامت أعمدتها على رمال متحركة تهزّها الرياح .
فخورون بهويتنا الوطنية وانتمائنا إلى هذا الشعب وهذه الأرض ... درس تونسي متواصل على امتداد الأزمنة والأمكنة ، يجدد نفسه دوما وأبدا ويمنح إمكانية الاستفادة منه لمن كان ذا عقل سليم...