منبــــر: اشربوا اليوم من كأس عصيركم الفاسد

 بقلم : رشيد الكرّاي

بضاعةُ المفلس تسويقُ الوهم أملا في أن يجد من يصدّقه ويتعامل معه ويمنحه القدرة على استعادة ما فقده . أليس هذا جوهر ما أعلنه رئيس الجمهورية حين قال ،

واهمٌ من يعتقد أنه ثمّة إمكانية للرجوع إلى الوراء ، وذلك ردا على آخر تقليعة من سياسة الهروب إلى الأمام التي تعتمدها حركة النهضة حين أصدرت بلاغا تدعو فيه الرئيس إلى إعادة الحياة إلى ذلك البرلمان الذي ثار عليه الشعب وأصبح رمزا لمآسيه وكوارثه بدل أن يكون الطبيب المداوي لها .
والحقيقة أن الهروب إلى الأمام لا يحدث عادة في الظروف العادية ، وإنما في الظروف الصعبة والاستثنائية ، وقد يحدث في الكثير من الأحيان بسبب الإحباط وقلّة الحيلة لدى الأشخاص الذين لديهم مستوى مرتفع ومفرط من النرجسية والأنا المرضيّة ، ولدى الأشخاص الذين ليست لديهم الجرأة للتراجع للخلف.
أما على المستوى العام وإدارة شأن المجتمعات فمن المعلوم بأن هناك العديد من السياسات التي تلجأ إليها الأنظمة السياسية ، خصوصا الأنظمة الفاشلة والفاسدة والمأزومة داخليا ، وذلك لمواجهة فشلها وعجزها في إدارة شؤون الدولة ، ولمواجهة الاستياء والغضب الشعبي ، ولمواجهة الفساد والعبث والفوضى ، ولمواجهة الأزمات والمشاكل التي تعصف بها.
ومن تلك السياسات ، اللجوء إلى ممارسة المزيد من الاستبداد والقمع ، والمبالغة في تلميع النظام السياسي إعلاميا وصناعة الخلافات والمشاكل بين الأطراف الداخلية لإشغالها في بعضها البعض ، بهدف إستنفاذ قوّتها وطاقتها ، تحت مبدإ فرّق تسد وهكذا ...
ولكن تظل سياسة الهروب إلى الأمام ، من أهم السياسات التي تلجأ لها الأنظمة السياسية الحاكمة لمواجهة أزماتها وعجزها وفشلها ومشاكلها الداخلية ، وذلك بدل أن تقف مع نفسها بجدية لمعالجة القضايا والأزمات العالقة ، وتظن أنها بسياسة الهروب إلى الأمام ، تمنح نفسها مجالا من الوقت لحلحلة مشاكلها وأزماتها ، بمعنى أنها تراهن على الوقت ، وعلى الأحداث ،

وعلى الحظ ، وعلى المتغيرات الإقليمية والدولية ، وعلى هامش صغير للتخطيط والمعالجات القائمة على الدراسات العلمية .
ومن أهم سياسات الهروب إلى الأمام التي عادة ما تلجأ إليها أنظمة الحكم المأزومة داخليا البحث عن مشاكل مع دول خارجية حتى لو ترتب عن ذلك نشوب صراعات أو حتى حروب ، دون اعتبار للنتائج الكارثية المترتبة على ذلك ، كما دأبت حركة النهضة عن ذلك من خلال اتهام دولة الإمارات الدائم بالتدخل في الشأن التونسي ودعمها لشق سياسي على حساب آخر متناسية الدور القطري القذر الذي تستفيد هي منه .

والهدف من هذا الخطاب ، إشغالُ الرأي العام الداخلي في الشأن الخارجي وغضّ الطرف عن مشاكله الداخلية ، بل إن أنظمة الحكم تذهب بعيدا في ذلك كما فعلت النهضة طيلة العشر سنوات هذه ، حيث تستغل هذه الظروف لتمرير ما لم تكن تستطيع تمريره خلال فترة السلم ، كما أن هكذا وضع يمنحها السلطةَ في قمع كل القوى والأصوات المعارضة لها ، ويعطيها الفرصة المناسبة للتنصل عن الكثير من إلتزاماتها تجاه شعبها .

لذلك تظل الشعوب هي المتضرر الأكبر من هذه الصراعات والمناكفات لأنها لا تجني منها سوى الدمار والخراب والمعاناة والكوارث ، بينما الأنظمة السياسية الحاكمة قد تستغلها لتحقيق العديد من المكاسب وقد تمنحها الفرصة للهروب من أزماتها الداخلية ...

وعندما تقرر الأنظمة السياسية اللجوء إلى سياسة الهروب إلى الأمام ، فانه لا يهمها ما يترتب عن ذلك من استنزاف وإهدار لقدرات وطاقات شعوبها ، مهما كان ذلك الإستنزاف عشوائيا وجائرا ، ومهما ترتب على ذلك من معاناة وكوارث ومآسي وفي ظل هذه السياسات غير مدروسة ، قد تأتي الضربة القاصمة لهذا النظام أو ذاك ، من حيث لا يحتسب ، فقد تأتي إليه من المكان الذي كان يأمن جانِبَه ، وقد تأتي له من الداخل من خلال حراك شعبي ، وعندها وبعد فوات الأوان يدرك ذلك النظام ، بأن هروبه إلى الأمام في ظل حسابات عشوائية ، لم يجني منه إلا الخسارة ، خصوصا إذا كانت المتغيرات الاقليمية والدولية لا تعمل في مصلحة الأهداف والسياسات التي يسعى إلى تحقيقها .
هل كان يجول بخاطر أكثر النهضويين ذكاء بأن الضربة القاصمة التي أتتهم ستكون على أيدي الرئيس قيس سعيّد الذي دعّموه في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية ، والذي سخروا من خطاباته ومواقفه تحت قبّة البرلمان الذي يسيطر عليه شيخهم الأكبر ، بل وتعدّى نوّاب «براشوكهم» حدود اللّياقة والاحترام المستوجبة على أعلى مؤسسة في الدولة ؟ هل كانوا يتوقّعون بأن يتخلّى عنهم الجميع بمن فيهم قواعدهم وذلك الحزب «الكرتوني» الذي أسقطوا حكومة الفخفاخ من أجله عيونه ، إلى جانب الأطراف الخارجية الداعمة لهم ؟

صَمَّتْ النهضة وشيخها آذانهما وأصرّا على سياسة الهروب إلى الأمام ، التي عادة ما تلجأ إليها الأنظمة السياسية المأزومة ، وهي سياسة ليست أكثر مجازفة وتهور ومغامرة غير محسوبة العواقب ، وعادة ما تكون نتائجها كارثية ومأساوية على الشعوب ، وقد تتسبب في زوال ونهاية تلك الأنظمة .
هذه هي النتيجة الطبيعية لأي سياسة ، لا تعتمد على العقل والمنطق ، والدراسات العلمية والبحثية ، ولا تعتمد على القدرات والإمكانيات المتاحة ، وتعتمد فقط على الوقت والمجازفة والمغامرة والحظ ، في انتظار متغيرات إقليمية أو دولية ، قد تغير المعادلة لمصلحة هكذا أنظمة ، وهذا نادر الحدوث ، بل هو اليوم من باب المستحيلات ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115