قهوة الأحد: انتكاسة المشروع الوطني وهيمنة الفكر اليومي

ارتبطت المراحل والمحطات السياسية الكبرى في التاريخ بتجارب فكرية هامة ومميزة ساهمت في بناء التصورات الكبرى ورؤى القوى السياسية

وساعدتها في رسم طريق ممارساتها وكفاحها. وكانت أزمة الدولة الوطنية اثر حرب 1967 في سبعينات القرن الماضي نقطة تحول كبرى في العلاقة بين الممارسة السياسية والتجربة والإنتاج الفكري.فلئن وجدت بعض المحاولات النقدية للمشروع السياسي العربي هزيمة وانتكاسة للمشروع الوطني عند بعض المفكرين الذين اشرنا اليهم كسمير أمين وعبد الله العروي وهشام جعيط وغيرهم فإن هذه المحاولات سرعان ما تراجعت لتفسح المجال الى فراغ فكري ومعرفي كبير على الساحة العربية .

وتعتبر هذه المرحلة مفصلية في هذه العلاقة بين الفكري والممارسة السياسة إذ سينقطع هذا الرابط ويتباعد الاثنان .وستتواصل هذه القطيعة من نهاية القرن الفائت إلى أيامنا هذه ليغيب الفكر ويتيه العمل السياسي في متاهات وممارسات يغيب عنها التصور والرؤى الإستراتجية .
دخلنا منذ سنوات في فراغ فكري وتنظيري كبير لتصبح الممارسة الفكرية مرفوضة بدعوى ابتعادها عن الواقع وضرورة تحرير العمل السياسي من سطوة الفكر.ولن يقتصر هذا الفراغ الفكري على المجال السياسي بل سيتعمق في جميع مجالات الحياة .
وستعرف هذه الفترة تراجع العمل الفكري وهيمنة ما يمكن أن نسميه بالفكر اليومي في جميع المجالات .ويعتبر المفكر اللبناني مهدي عامل من أهم المفكرين الذين خصصوا الكثير من الكتابات والمساهمات إلى هذا الموضوع .

• مهدي عامل وهيمنة الفكر اليومي
مهدي عامل أو حسن حمدان وهو اسمه الحقيقي،وهو أصيل الجنوب اللبناني وقد زوال تعليمه العالي في فرنسا في مدينة ليون بالتحديد حيث تحصل على الدكتوراه في الفلسفة.وبدا مشواره التدريسي في جامعة قسنطينة في الجزائر قبل أن يواصل في الجامعة اللبنانية حيث درس مواد الفلسفة والعلوم السياسية والمنهجيات إلى جانب نضاله السياسي وانخراطه في الحزب الشيوعي اللبناني وقد لعب مهدي عامل دورا مهما في الحركية الفكرية والنقدية التي عرفها لبنان منذ الستينات والتي ستأخذ منحى تصاعديا بعد هزيمة 1967 وتراجع القوة الوطنية .

وقد انطلق مهدي عامل منذ منتصف الستينات في مشروع فكري طموح وكان هدفه فهم أزمة المشروع الوطني والأسباب العميقة لتراجعه وانتكاسته.وقد اصدر عديد الدراسات والكتب لتقديم بعض الإجابات حول هذه الإشكاليات والتساؤلات.ومن أهم هذه الكتب والمحاولات « أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية» و«مدخل إلى نقد الفكر الطائفي» و«هل القلب للشرق والعقل للغرب» وفي عملية الفكر الخلدوني» وفي الدولة الطائفية» إلى جانب بعض الدواوين الشعرية.

وعلى أهمية هذه المؤلفات والدراسات ،اعتبر أن « كتاب' في نقد الفكر اليومي» من أهم محاولاته وكتاباته الفكرية .وقد صدر هذا الكتاب بعد وفاة مهدي عامل حيث امتدت يد الغدر لتغتاله في 1987 في احد شوارع بيروت .
وقد صدر كتاب» في نقد الفكري اليومي» سنة 1988 ورغم انه لم يتمكن من إتمامه الا انه حمل مجموعة هامة من الفرضيات التي تمكننا من فهم الأزمة العميقة التي نمر بها وخاصة القطيعة التي تميز بين الممارسة الفكرية والتجربة السياسية .
وقد انطلق في دراسة الفكر اليومي المهيمن في غياب مشروع فكري رائد من قراءة قصاصات المجلات والجرائد والمقالات الصادرة فيها في أبواب الرأي .
وقد مكنت هذه المتابعة -والتي انطلقت منذ بداية الثمانينات- مهدي عامل من تحديد أبرز خصوصيات الفكر اليومي والتي قام بنقدها .
والخاصية الأولى للفكر اليومي رفضه للتعقيد وعشقه للتبسيط ودفاعه عنه في بناء الأفكار والآراء .

ويسعى الفكر اليومي إلى تجنب الحديث في المفاهيم والمنهج بدعوى ابتعادها عن الواقع وعدم قدرتها على فهم ديناميكيته وحركته .كما أن من خاصيات الفكر اليومي رفضه للاختلافات والتناقضات والتي تشكل مدخلا لتفكيك وحدة المجتمعات وتماسكها .
كما أن الفكر اليومي يرفض التحليل العلمي والفهم .وتقوم قراءاته وتحاليله على البديهة والأحداث اليومية بعيدا عن هيمنة الفكر والنظريات والقراءة العميقة للواقع.
ويمكن أن نضيف إلى جملة الخاصيات التي حددها مهدي عامل في تصنيف الفكر اليومي تحديد السياسات في مجال المعتاد وإعادة بناء السائد وبالتالي لا تفتح هذه الاختيارات مجال التغيير وبناء أنماط سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة .
وقد التقت هذه التيارات والمساهمات الفكرية المهيمنة في الساحة الفكرية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي في جملة من المقولات العامة التي أسست لهذا الفكر اليومي الذي يرفض التحليل ويسعى إلى الاعتماد على البديهة والمقالات الجاهزة البعيدة عن كل تحليل عملي وقراءة موضوعية وعلمية للواقع .
وقد كانت لهيمنة الفكر اليومي في المجال الفكري نتيجتان مهمتان .النتيجة الأولى هي تهميش النخب وترذيلها وإقصاؤها من المشهد السياسي والاجتماعي .أما النتيجة الثانية لهذه الهيمنة فتتمثل في غياب التصورات الكبرى والرؤى الإستراتيجية لتبقى الممارسة السياسية حبيسة التخمينات اليومية .

• الفكر اليومي والتعبيرات السياسية في الساحة العربية
منذ انتكاسة المشروع الوطني وتراجع المشاريع الفكرية عرفت هيمنة الفكر اليومي تعبيرتين سياسيتين مختلفتين على الأقل .الأولى منذ بداية الثمانينات مع صعود النيوليبرالية السياسية وخاصة الاقتصادية لتفتح الممارسة السياسية المجال إلى توصيات وتعليمات المؤسسات المالية العالمية لتصبح التعبيرة الأكثر تداولا للسياسات العمومية. وقد عرف الخطاب النقدي لهذه المؤسسات وبرامج التعديل الهيكلي الكثير من التراجع تحت عنوان الواقعية والبراغماتية .
ومع أزمة الخطاب السياسي النيوليبرالي منذ بداية القرن وظهور الشعبوية وتطورها الكبير أخذ الفكر اليومي هذه التعبيرة ليهاجم النخب ويوجه اليها الكثير من النقد وليواصل هيمنته على المجال الفكري .
تعيش بلادنا كالعديد من البلدان العربية أزمة سياسية خانقة .كما يعرف مشروع الانتقال الديمقراطي الكثير من الأزمات .وفي رأيي فإن الأزمة الفكرية وانتفاء العلاقة الوثيقة بين أفكار والسياسة تفسر إلى حدّ كبير هذه الأزمة وتدعو النخب إلى ضرورة العمل على بناء مشروع سياسي عربي جديد .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115