عُريُ الجسد، عُريُ المعنى

نحن في أنظمة مُعادية للجسد، أنظمة السياسة وأنظمة التعليم وأنظمة التنشئة الاجتماعية والدينية وأنظمة الشرطة أيضا.

كلّ هذه الأنظمة وبدرجات مختلفة تزدري الجسد، تخاف من حرّيته ومن عنفوانه ولا ترتضيه شكلا للتعبير. ما يُخبف هو الجسد العاري في الصور وفي الأذهان وفي الذاكرة. وما يُخيف أيضا الجسد الذي يُسحل في الفضاء العام تحت أنظار الناس ثمّ تلتقط قنوات التلفزيون العالمية المشهد على أنه حدث بشع وهو كذلك فتعمّر به نشراتها ثم تمضي إلى جسد عار في سياقات مغايرة.
تمّ سحل جسد يافع من طرف أعوان أمن في الطريق العام. التقطت عدسات الهواتف النقالة المشهد وعرضته في حينه. لا مجال للإنكار هذه المرّة ومع ذلك يأتي البيان الرسمي بجسد آخر غير الذي وقع سحله على الإسفلت وعلى التراب. جسد تعرّى بفعل صاحبه في تحدّ لما ينافي الحياء. ومقولة مناف للحياء هي مقولة قانونية مستعملة تعاقب كلّ من يتجرّأ على عرض جسده أو جزء منه أمام الملإ.
يتراجع البيان الرسمي على بيانه الأوّل خجلا وخوفا ودرأ للفضيحة العامة. تقع العودة للجسد الأصلي، وفي العودة هناك مسافة ذهنية وثقافية تشير إلى أن شرطة بلدي لا ترى في الجسد إلا عدوّا يجب إيقاف جماحه. كما المنظومات الأخرى التي يزعجها الجسد الجامح يقع تعديل المواقف والكلمات. وتخرج الأشياء من سياقاتها. ويتفق الجميع على أن الجسد اليافع الذي وقع سحله هو جسد جيل كامل من الشباب الذي كما يشكو علاّت كثيرة يشكو أيضا قلّة جسده ويدفع لذلك كلفة كبيرة. وفي الوقت الذي يُسحل فيه جسد اليافع تنتبه داعش إلى المشهد وتبقى في انتظار مخرجاته، بل ستسعى إلى استثماره وتجعله وقودا للنقمة. سينتقم جيل هذا اليافع وهو يرى ما يرى، سيصرف نقمته في المثول أمام كل الشبكات التي ستقدم له الإجابات. عن إجابات الدولة فالسحلُ يختزل كل شيء.
هل شرطة بلدي في عداء مقيت مع الأجساد؟
نعم، هي في عداء كبير مع الأجساد ولذلك تاريخ أقبية الجهاز هي أقبية تعذيب الجسد وإهانته. المعارضون دوما هم عرضة لانتهاكات جسدية بتلذّذ كبير، الغاية ليست انتزاع الاعتراف بقدر ما هي الذهاب إلى الأقصى في تدمير الذات ويتحول الجسد العاري الخاضع للعري إلى عُري للمعنى، معنى الوجود والإحساس به وهذا أكثر إيلاما من أي شيء آخر. تعتقد شرطة بلدي ان قمع الجسد هو قمع للفكرة وقمع للإرادة، وهذا ربّما خطؤها الكبير. لم تعلم إلى الآن شرطة بلدي أن الإحساس بإهانة جسد والكشف عنه دون إرادة صاحبه هو مضاعفة للنقمة ووعي أشدّ بها.
هل إعادة ابتكار شرطتنا من إعادة ابتكار أجسادنا؟
هذه مسألة ذهنية وثقافية يقع الاشتعال عليها على المدى الطويل. من أعسر المسائل التي نواجهها هي إعادة ترتيب علاقاتنا بأجسادنا. ولكن من الممكن إعادة ترتيب عقيدة شرطتنا على احترام أجساد المواطنين. وهذه مسألة تحتاج هي الأخرى إلى عمل مضن. عمل تدريبي متواصل ومرافقة فنية ومهنية تعمل على أن الفرد ليس مواطنا فقط هو جسد أيضا، وأن وطن الفرد ليس إلا جسده. قد تبدو المهمّة صعبة وهي كذلك و لكن علينا أن نبدأ الاشتغال عليها، قد تعطينا نتائج بعد حين و لكن على المسألة أن تكون من مرتكزات العقيدة الأمنية الجديدة إن رغبنا في إصلاحها كما نرغب في إصلاح مؤسسات أخرى تشكو نفس العلاقة المأزومة مع الجسد.
في دول عديدة يقع تجريب مقاربة شرطة الجوار، في البرازيل وفي مناطق أخرى من العالم. ورغم تنوع آليات مقاربة شرطة الجوار إلا أنها كانت ذات نتائج مشجعة. و المقاربة هي ألا يكون شرطي الحيّ الشعبي غريبا عن مجاله. لا تكون شرطة مداهمات، بل شرطة توافقات. يقع تركيز مجلس أمني محلّي يشارك فيه فاعلو الحيّ، مجتمع مدني، سلطة محليّة، زعامات محلية جديرة بالثقة، وكل هؤلاء يشكلون مقاربتهم الخاصة للمشاكل الأمنية التي يعيشها المواطنون. يقع التداول حولها، تقع وساطات عديدة لتقريب وجهات النظر ووجهات الفعل، هناك تبادل للمعلومات وهناك تخفيف حالات التوتر، هناك أيضا قراءة لكل أشكال التدخل، هناك إعادة قراءتها واستخلاص الدروس منها. كل هذا من أجل بناء الثقة بين الجهاز الأمني والمواطنين، وهذا هو معنى الأمن الجمهوري.
هناك تجارب تونسية لشرطة الجوار، تحتاج هذه التجارب إلى مزيد تمتينها وإلى مزيد نشرها والاشتغال عليها. نحتاج إلى حوكمة جديدة للجهاز الأمني. المدينة كي تكون آمنة على الأجساد أن تكون فيها آمنة، آمنة في الأذهان وفي الذاكرة خصوصا وهي المهمة الأعسر. وفي انتظار ذلك سيسعى اليافع إلى إعادة ابتكار جسده بالموارد المتاحة لديه...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115