إنّ لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى

بقلم:نادر الحمامي
لم أبلغ المراهقة بعدُ أو أنّي كنت على مشارفها حين كانت التلفزة الوطنيّة الوحيدة في ذلك الوقت (أ-ت-ت) تنطلق في البثّ بداية من الساعة الرابعة

بعد الظهر بعد أن تقول لنا مذيعة الربط جملتها اليوميّة «وخير ما نبدأ به برامجنا آيات بيّنات من ذكر الله الحكيم»، والحقّ أنّي كنت في انتظار فقرة الصور المتحرّكة الّتي تلي تلك الآيات الّتي أستعجل نهايتها في الغالب حتّى أتابع فقرتي المفضّلة، ولكن أذكر جيّدا أنّي كنت أشعر بنوع من الفرح الّذي لا أفهمه جيّدا كلّما كانت الآيات المختارة من سورة طه بترتيل الشيخ المصري محمود خليل الحصري. لا أدري ما إذا كان الأمر يعود إلى صوت ذلك المرتّل الّذي كنت أطرب له، أم إلى السورة نفسها وفيها من القصّ الكثير، على كلّ حال فهمت بعد سنوات أنّني مغرم بالقصص الّذي لولاه لكان لي مع القرآن شأن آخر، وتلك قصّة أخرى. كنت أتابع باهتمام شديد وطرب أيضا قصّة آدم في السورة، وأتعاطف أحيانا مع من هدّده الإله بأنّه سيحشر يوم القيامة أعمى، وأنّ له معيشة ضنكًا، وكثيرا ما شدّني وصف الجنّة ووعد الإله آدم ترغيبا: «إنّ لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى»، والكلّ يعرف الآن أنّ إغراءات الخلد والملك الّذي لا يبلى غلبت على آدم فكان النزول وكان الجوع وكان العراء وكان العطش ولهيب الشمس. ترسّخ في ذهني دائما أنّ الجوع والعراء والعطش والتعرّض لحرّ الشمس من ضمن العقوبات الإلهيّة الّتي ابتلِيَ بها الإنسان تبعًا لمعصيته وطمعه في الخلد والملك الّذي لا يفنى ولا يزول، وتعمّق الأمر حين قرأت «سدّ» المسعدي وكانت صاهبّاء فيه آلهة القحط والجفاف. ولم يقطع مع ما ترسّخ لديّ إلاّ ما سمعته لاحقا من أحد الأساتذة وهو يؤصّل لنا تأويليّا حبّ الوطن والانتماء إليه وأنّ وطننا، كما الجنّة، لا نجوع فيه ولا نعرى ولا نظمأ ولا تصيبنا المشقّة، ولعلّه عاد إلى بعض كتب التفسير، عرفتُ بعد سنوات طويلة أنّه تفسير ابن كثير، ليقول لنا إنّ الجوع قُرِن في الآية بالعري لأنّ الجوع ذلّ الظاهر والعري ذلّ الباطن، وبالتالي كان الوطن، تونس، حاميا لنا من كلّ ذلّ، ما ظهر منه وما بطن، فكان الوطن جنّة أرضيّة تماثل جنّة آدم. و»جنّة والله جنّة، تونس يا وطنّا» كما غنّى شكري بوزيان، فاطْرُق ما شئت من أبواب الجنّة الثمانية وادخلها بسلام آمن وانظرْ بنفسك ترَ.

في جنّتنا جوع كثير حتّى لوّح الكثيرون بثورة الجياع الّتي لن تبقِيَ ولن تذر. جياع لم يرأف بهزالهم وضلوعهم البارزة أحد، بل لعلّهم حرصوا على أن تبرز الضلوع أكثر فأكثر فتنهار ويسومها كلّ مفلس، أوَ لَم تهزل فهانت وحقّ عليها الهوان؟ ما الحاجة في جنّتنا إلى إصلاح جبائي حقيقي يتناسب مع الثروات؟ وما الحاجة إلى توجيه الدعم إلى مستحقّيه؟ وما الحاجة إلى النظر في الأراضي الدوليّة المهملة بإزاحة العقبات البيروقراطيّة أمامها وتمكين الشباب منها؟ وهل من ضرورة إلى الالتفات إلى الصناديق الاجتماعيّة المفلسة؟ لا داعي لهذا ولغيره فنحن في جنّة حقيقيّة، وها أنّ الجوع فيها قد تحقّق، والفقراء يدخلون الجنّة قبل أغنيائها بسبعين ألف سنة.
لم يشأ الظمأ والعطش أن يترك رفيق دربه، الجوع، وحيدا فرافقه في الجنّة، وإن لزم الأمر صاحبه في الشمال الغربي التونسي الّذي تعلو فيه السدود وتجري من تحته الأنهار الّتي قد تفيض شتاء فتغرق كلّ شيء، بل وصل الأمر إلى أن دخل الظمأ زغوان حيث معبد المياه، أو لم تنتحر تلك الشابّة ذات السبع عشرة سنة في يوم من الأيّام هناك، وقدّمت نفسها قربانًا للمعبد لأنّها سئمت حياتها القصيرة وقد قضّتها ذهابا وجيئة على حمار تحمل الماء عليه، فرأت من الأفضل أن تلقي بنفسها في البئر. كلّ النظريّات حول القرابين كانت حمقاء في جنّتنا، لقد قالوا لنا في الكتب إنّ الإنسان يقدّم القربان لوقف العنف، فما زادتنا قرابيننا إلاّ ظمأ.

أمّا الشقاء في الحرّ والبرد فقد رأينا منه ألوانا وقد تجسّد أمام أعيننا في نسوة غادرن أكواخهنّ فجرا لتركبن شاحنات الموت، فتتيبّسن بردًا أو تحترقن لهيبًا ووجههن والهجير بلا لثام، حاملات معهنّ كسرة خبز لا تقدر على إقامة ظهورهنّ الّتي احدوْدبت في تراب أرض تركن فيه جلود أيديهنّ المشققة، ولا تنلن من الأرض نصيبًا فالرجال أوْلَى. فإن منّوا عليهن فالنصف شرعا. وإن متن في الطريق فسننصب لهنّ مناحة يوم أو يومين في انتظار أن تموت منهنّ طائفة أخرى لنقيم مناحتنا الدوريّة التالية، وتعود الأمور إلى سالف عهدها الرتيب. خرجت النسوة فجرا، بل قبله، تاركات وراءهنّ بنات وأبناء سيقطعون بعدهنّ بقليل دروبًا وعرة بين الكلاب والذئاب ليصلوا إلى مقاعدِ درسٍ مهترئة بين جدران آيلة للسقوط يغنّون بينها كلّ يوم أمام علم لم يرأف أحد بشيخوخته: «نموت، نموت ويحيا الوطن».
لم يبق إلاّ العراء لتكتمل عناصر الجنّة، وها قد اكتمل في أحد أركانها على قارعة الطريق نهارًا. لقد قرأت نصوصا كثيرة من أدب السجون عن الإذلال والإهانة بالتجريد من الملابس بغاية تحطيم المعنويّات، وشاهدنا منذ سنوات تلك الصور المسرّبة من سجن أبي غريب، سيّء الذكر، الّذي أصبح يُضرَب به المثل في الشناعة وانعدام كلّ مظاهر الإنسانيّة، ورأينا صور المحتشدات الفاشيّة والنازيّة وغيرها الّتي تُعرّى فيها الأجساد تنكيلاً، وها أنّنا اليوم نرى أمامنا بعد أكثر من عقد على ثورة «الحريّة والكرامة» قاصرًا يُجَرَّدُ من ملابسه في الطريق العام.
حين قامت الثورة كان ذلك القاصر في الرابعة من عمره، أي في عمر ابني الأكبر وقتها، أذكر جيّدا أنّ ابني كان يردّد بنطق متلعثم يزرع على شفاهنا ابتسامة عريضة تصاحب أملا لا حدود له ما يُسمع هنا وهناك من صرخة عبد الناصر العويني ذات ليلة من 14 جانفي 2011: «ما عادش تخافوا من حدّ، تحرّرنا، الشعب التونسي حرّ، الشعب التونسي ما يموتش، الشعب التونسي العظيم، تحيا تونس الحرّة، المجد للشهداء، الحريّة يا توانسة، يا توانسة يا مهجّرين، يا توانسة يلّي شدّيتوا الحبوسات، يا توانسة يلّي عذّبوكم، يا توانسة يلّي قهروكم، يا توانسة يلّي غبنوكم، اتنفسوا الحريّة، شعب تونس أهدانا الحريّة... يا توانسنا يلّي ظلموكم، يا توانسة يلّي قهروكم، بن علي هرب، بن علي هرب».

أذكر بدقّة كيف كان يردّد ابني ذلك وأنا أنظر يومها في عينيه أبني له في مخيّلتي قصور الكرامة وجنّة الحريّة. اليوم أنظر إليه وأنا أشاهد فيديو الذلّ والهوان يُجرَّد فيه مراهق في سنّه من ملابسه، وأذكر ما كان يردّد صبيّا وقد فارقتني تلك الابتسامة القديمة وتاه ذلك الأمل ليحلّ محلّهما خوف عليه وعلى أبناء جيله وعلى من أتى بعدهم ومن سبقهم بقليل من طلبتي الّذين أتوا إلى الكليّات من كلّ بقاع الجنّة التونسيّة وبداخلي حيرة: كيف لي أن أقنعهم بقيم الحريّة والكرامة والعدالة في وطن حرّ لمواطنين أعزّاء؟ ما السبيل إلى ذلك وأن على يقين تامّ أنّهم شاهدوا ما شاهدت على صفحات الفايسبوك؟ كيف لي أن أمرّر لهم في ثنايا الدروس والشروح قيمة انتماء إلى بلد لم ير من مؤسّساته إلا الإهمال والنكران والإذلال واللامبالاة؟ كيف يمكن لنا أمام هذا «الجيل الخطأ»، ابن العالم، الّذي يأتيه طوعا وكرها على هاتفه الجوّال فيرى ما يعيشه نظراؤه في البلدان الّتي تحترم مواطنيها وأجيالها، أن نثنيه عن ركوب موج المتوسّط القاتل ليرحل إلى شمال يحسبه منقذا؟ وكيف لنا ألاّ نجعله يسخر من نصحنا عن الابتعاد عن أتون المخدّرات والإجرام والسلب والنهب؟ كيف سنثنيه عن السير في سبل الضياع واليأس ومقت كلّ ما من شأنه أن يشدّه إلى هذه الأرض فيتشبّث بها ولا يتركها للنهش والتخريب؟ وكيف لنا أن نجعل عزيمته تفتر عن بحثه عن وجاهة موهومة بين جماعات إرهابيّة تجعله يحلم أن يكون أميرا في الدنيا أو تضمن له النعيم في العالم الآخر فتقدّم له جنّة خلد وملك لا يبلى.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115