توجد في لغة السياسيين في كثير من الأحيان « مصطلحات» و«مفاهيم » و «عبارات » يقع استعمالها في غير طريقها وبطريقة خاطئة ومجانبة للصواب.
في إحدى جلسات مجلس نواب الشعب وفي تدخل احد النواب وفي نطاق رده على مداخلة سابقة أكد على أن خطاب بعض النواب فيه مقولات غير صحيحة ومنها مقولة أن « البرلمان هو السلطة الأصلية « وأكد النائب وان هذه المقولة غير سليمة لان البرلمان ليس السلطة الأصلية بل الشعب هو السلطة الأصلية وان البرلمان هو السلطة التشريعية.
وهذه الملاحظة هي التي حفزت العمل على هذه الورقة ومحاولة رصد بعض الإحكام والمقولات المتداولة في الخطاب السياسي وتقصي أثارها باعتبار أن تأسيس خطاب ومنطق و تحليل سياسي على أسس ومنطلقات خاطئة يؤدي بالضرورة إلى استخلاصات خاطئة.
وفي هذا الإطار سيقع تدقيق ثلاث مقولات (الأكثر تداولا اليوم ) وهي أن البرلمان هو السلطة الأصلية (I) وان البرلمان هو السلطة التشريعية (II) وان هناك رؤساء ثلاث في تونس (III).
(I) البرلمان ليس السلطة الأصلية وليس صاحب السيادة
في أكثر من مناسبة وبسبب وبدونه يؤكد نواب مجلس الشعب خاصة على ان البرلمان هو «صاحب السيادة الأصلية» و«السلطة الأصلية».
بمراجعة دستور 2014 وانطلاقا من التوطئة نجد التأكيد صراحة على انه وقع تأسيس « نظام جمهوري تشاركي في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب».
كما جاء صراحة في باب المبادئ العامة وتحديدا بالفصل 3 منه وان « الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الاستفتاء».
إذا ومن خلال الدمج بين ما جاء بالتوطئة ومما جاء بالفصل 3 من الدستور ( المبادئ العامة وما إدراك من المبادئ العامة ) نجد أن :
• الشعب هو صاحب السيادة أي أن الشعب هو السيد Souverain ولا يشاركه ولا ينازعه فيها أي جهة أخرى
• أن مصدر السلطات هو الشعب أي أن الشعب هو صاحب السلطة الأصلية وان كل السلطات الأخرى ليس سلطات أصلية بل هي سلطات فرعية أو مفوضة وان قرارات السلطات الفرعية بما في ذلك السلطة القضائية تصدر باسم الشعب (الفصل 111 من الدستور )
إذن, الفصل 3 من الدستور لمّا خص الشعب «بالسيادة» و«السلطة الأصلية» ( باعتباره مصدر السلطات ) يكون قد انهي الاستعمالات الرائجة والخاطئة حول السلطة الأصلية والسيادة وتحديد حجم كل المؤسسات باعتبار أن هناك «الأصل» وهناك «الفرع« أو «المفوّض» فالأصل هو الشعب الذي له السلطة والسيادة يفوضها بكل حرية (بالانتخاب و دون أن يتنازل عنها ) ويسحبها متى شاء بعدم الانتخاب وخاصة بحق العزل أي حق الناخب في أن يعزل من انتخب قبل نهاية عهدته الانتخابية (وهو الحق غير مكرس مبدئيا في التشريع التونسي وهو ما سيكون محل دراسة لاحقة ومفصلة) .
فصاحب « السلطة » الفرعية أو المفوض (البرلمان) لا يمكنه أن يدعي لنفسه سلطة ليست عنده ولا ينسب لنفسه سيادة لا يملكها لأنه وحسب إحكام الفصل 3 من الدستور هو «وسيلة» ( استعمل الدستور عبارة بواسطة) يمارس من خلالها الشعب صاحب السلطة الأصلية سلطته التشريعية .
(II) الأكثر من ذلك أن البرلمان ليس السلطة التشريعية.
نضم دستور 2014 السلطة التشريعية في الباب الثالث تحت عنوان السلطة التشريعية ( الفصول 50 - 70) .
وقد جاء صراحة بالفصل 50 وانه « يمارس الشعب السلطة التشريعية عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب أو عن طريق الاستفتاء «.
وبتدقيق عبارات ودلالات هذا الفصل الدستور نلاحظ وان :
• السلطة التشريعية يمارسها الشعب . فالشعب هو صاحب السلطة التشريعية والممارس لها, لان أي سلطة معينة هي متماهية مع من يمارسها (صاحب السلطة) والدليل على ذلك وان السلطة التنفيذية هي رئيس الجمهورية والحكومة حسب ما جاء الفصل 71 من الدستور الذي أكد على انه « يمارس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس حكومة».
فاستنادا على الفصل 2 والفصل 71 من الدستور تكون المعطيات الدستورية كما يلي : السلطة التنفيذية هي رئيس الجمهورية والحكومة (التي يرأسها رئيس الحكومة) والسلطة التشريعية هي الشعب.
• يمارس الشعب هذه السلطة عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب أي أن نواب مجلس الشعب هو «ممثل عن الشعب في ممارسة سلطة التشريعية», بما يعي إن الشعب لا يمارس هذه السلطة التشريعية مباشرة (لأسباب لوجستية ولعدم وضوح رؤية عملية واداتية في كل العالم لممارسة الديمقراطية المباشرة بالرغم من المحاولة الهامة والجدية في تطبيقها عبر الانترانتE.democraty ) بل يمارسها «عبر» (حسب عبارة الفصل 70) و«بواسطة» (حسب عبارة الفصل 3) نوابه والاستفتاء.
فمجلس نواب الشعب هو «أداة» أو «وسيلة» ممارسة الشعب لسلطته التشريعية وليس هو أي مجلس النواب هذه السلطة التشريعية
• أن مجلس نواب الشعب وباعتباره «أداة » أو «واسطة» ممارسة الشعب للسلطة التشريعية فانه ليس الوسيلة الوحيدة بل هو وسيلة مع وسيلة أخرى هي الاستفتاء.
• فالشعب يمارس دستوريا السلطة التشريعية بواسطة وسيلتين هما « مجلس النواب» و«الاستفتاء» بما يعني أن مجلس النواب ليس هو السلطة التشريعية بل هو «تقنية» من التقنيات التي يعتمدها صاحب السيادة والسلطة ( الشعب ) في ممارسة سلطته التشريعية بل الأكثر من ذلك انه أي مجلس النواب - ليس له امتياز أن يكون «الواسطة» الوحيدة بل هو واسطة مع واسطة أخرى وهو الاستفتاء.
فمجلس نواب الشعب وفي علاقة بسلطة التشريع لا يختلف في شيء على تقنية الاستفتاء بل كلها وسائط يمارس بها الشعب حقه في التشريع ولا يختلفان في الأهمية بل يختلفان في الإجراءات والتقنيات فحسب .
• وللتدليل على ذلك وبمراجعة باب السلطة التشريعية ( الفصل 50 – 69 ) لا نجد أن الدستور قد ذكر ولو مرة واحدة مجلس النواب باعتباره السلطة التشريعية بل وردت هذه العبارة مرتين: في العنوان وفي الفصل 50 إلى جانب الشعب « يمارس الشعب السلطة التشريعية» وفي كل الفصول الأخرى استعمل الدستور عبارة «مجلس نواب الشعب» دون توصيف أخر انسجاما مع الفصول 3 و50 من الدستور.
(III) دستوريا ليس هناك رؤساء ثلاث
أن الحديث في الخطاب السياسي اللبناني عن «رؤساء ثلاث» مبرر دستوريا وسياسيا لان نظام الحكم اللبناني يوزع طائفيا بين المارونيين والمسلمين الشيعة والمسلمين السنة ومكرس ذلك في إحكام الدستور. ففي لبنان رئيس الحكومة هو رئيس مؤسسة دستورية وفي نفس الوقت هو رئيس طائف اجتماعية ودينية وكذلك رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب.
أما في تونس فان الحديث عن رؤساء ثلاث ليس له دستوريا ما يبرره.
لقد كرس دستور 2014 مبدئيا توزيع السلطات ( تشريعية: يملكها الشعب ويمارسها بواسطة نوابه / قضائية/ تنفيذية برأسيها رئيس الدولة ورئيس الحكومة) وذكر في أكثر من مناسبة عبارة «رئيس» مثل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الأعلى للقضاء... ولكن هؤلاء «الرؤساء» لم يقع ذكرهم بنفس عدد المرات وكذلك لم يقع إسناد مهام وظائف وصلاحيات خاصة بهم بنفس الحجم والأهمية:
• رئيس الجمهورية: ورد ذكره في الدستور أكثر من 75 مرة وأعطاه الدستور أكثر من 30 صلاحية Attribution ( مهمة / صلاحيات ) خاصة به يقوم بها بصفته تلك أي بصفته رئيس الجمهورية مثل: يتولى / يطلب / يمارس / يُّمكّن / يؤدي/ يتّخذ / يختم / يعبّر/ يفوّض/ يعلم / يحلّ / يقوم / يعيّن وبعض الأفعال وردت أكثر من مرة: 4 مرات فعل «يكلّف», 3 مرات فعل «يمارس».
• رئيس الحكومة : وقع ذكر عبارة رئيس الحكومة في الدستور أكثر من30 مرّة ومثله مثل رئيس الجمهورية اسند له الدستور أفعال ومهام وصلاحيات Attribution وقع التعبير عنها بالأفعال الايجابية : يتولّى / يمارس /يختصّ / يحلّ / يضبط / يمكّن / يعلم ... .
• رئيس مجلس النواب: وقع ذكره في الدستور حوالي 15 مرة وكل الأفعال التي وردت في الدستور هي أفعال سلبية (بصفته متلقي وليس فاعل) بمعنى أن الغالبية العظمى من المرات التي ورد فيها اسم رئيس مجلس النواب يكون فيها غير فاعل بل يتلقى فعل رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة مثل حالة إعلامه من قبل رئيس الجمهورية باستقالة رئيس الحكومة ( من يتولى الإعلام هو رئيس الجمهورية ومن يتلقى الإعلام هو رئيس البرلمان الفصل 98 ) وكذلك إعلام رئيس الجمهورية لرئيس مجلس نواب الشعب بتفويضه المؤقت لسلطاته ( الفصل 83 ).
وقد اسند الدستور فعلين ايجابيين وحيدين لرئيس مجلس النواب يكون فيها صاحب سلطة وقرار بصفته تلك هما :
- فعل «يتولّى» أي الحالة التي يتولى فيها رئيس مجلس النواب مهام رئس الجمهورية كما وردت بالفصل 54.
- فعل « يطلب « أي الحالة أحكام الفصل 80 حيث أن رئيس مجلس نواب الشعب يمكنه اللجوء للمحكمة الدستورية للنظر في مسالة الحالة الاستثنائية وهي مهمة يمارسها بصفته رئيس مجلس النوّاب ويختص بها لكنه لا يختص بها وحده باعتبار أن عدد 30 نائب من المجلس يمكنه القيام بنفس المهمة. عدا هاتين الصورتين لم يعط الدستور لرئيس مجلس النواب أي «مهام» و«صلاحيات» خاصة وكل الأدوار التي يقوم بها هي باعتباره «همزة وصل» بين البرلمان وبين رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة فيما يتخذانه من قرارات وممارسة صلاحيات .
إذا فيمكن تلخيص الوضعية كما يلي:
- رئيس الجمهورية له عديد المهام والسلطات والصلاحيات ( العزل/ التعين / التسمية..):
- رئيس الحكومة كذلك له مهام خاصة به يمارسها مباشرة بصفته تلك ( تعيين / عزل / تسمية ...):
- رئيس البرلمان ليس له مثل هذه المهام دستوريا وكل القرارات الصادرة عن البرلمان يصدرها البرلمان وليس رئيس البرلمان فرئيس البرلمان دوره تسيير البرلمان (ينضمّها القانون الداخلي للبرلمان ) وليس تقريري ( لا يعيّن ولا يعزل ولا يسمي ولا يصدر قرارات أو أوامر) على عكس رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة اللذان لهما مهام هامة وخطيرة (الفصول 77 و78 بالسبة لرئيس الجمهورية مثلا الفصل 92 وما يليه بالنسبة لرئيس الحكومة).
إذا فدستور 2014 اختار نظام سياسي خاص فيه رئيس جمهورية (في نفس الوقت رئيس دولة) بصلاحيات هامة ورئيس حكومة (وفي نفس الوقت رئيس مجلس الوزراء الفصل 93 من الدستور) بصلاحيات كبيرة وخاصة به ( استعمل الدستور عبارة «يختصّ») وأكد صراحة على أن للسلطة التنفيذية رئيسين هما رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
إذا فللدولة رئيس ( رئيس جمهورية ) وللحكومة رئيس (رئيس الحكومة ) وكل بقية الرؤساء هم رؤساء لمؤسسات دستورية وليس لهم مهام أو صلاحيات خاصة وسلطة اتخاذ قرار عام ( رئيس مجلس النواب, رئيس المجلس الأعلى للقضاء ,الذي ذكر أكثر من مرة في الدستور وفي كثر من مناسبة على نفس درجة الأهمية مثله مثل رئيس البرلمان حين يتلقى التقارير السنوية للهيئات القضائية) فذكر رئيس المجلس الأعلى للقضاء أكثر من مرة في الدستور وإعطاؤه بعض الأدوار لا يعني انه أصبح «رئيسا» وإلا صرنا نتحدث عن الرئاسات الأربع.
• الخاتمة:
ما يميز جانبا كبيرا من الخطاب السياسي المتداول انه غير منسجم مع دستور2014 الذي كرس الديمقراطية التشاركية (صراحة في الديباجة والتي تتميز بمعنى خاص لمفهوم النيابة والتمثيل السياسي على عكس الديمقراطية النيابية) وكرّس نظام سياسي من نوع خاص به راسين للسلطة التنفيذية (أي رئيسين) لا غير وكل بقية « الرؤساء « ( رؤساء الأحزاب والمنظمات والهيئات الدستورية بما فيها البرلمان...) ومهما كانت درجة تأثيرهم في الشأن العام والقرارات السياسية فان هذا لا يعطينا الحق في الحديث عن الرؤساء الثلاث أو الأربع أو الخمس بل هناك رئيس للدولة ورئس للحكومة ووحدهما يختزلان صفة « رئيس « دستوريا .
أخطاء شائعة: البرلمان ليس سلطة أصلية و لا تشريعية، و لا وجود لرئاسات ثلاث ...
- بقلم المغرب
- 13:59 31/05/2021
- 1079 عدد المشاهدات
بقلم: الأستاذ سالم السحيمي
المحامي لدى التعقيب
كما توجد في اللغة عديد الأخطاء الشائعة حتى أنها تكاد تكون هي الحالة « الصائبة » في حين أن الحالة الصحيحة تصبح مجهولة وغير سليمة ..،