يمكن أن تدخلنا كرة القدم في هذه المتاهات، وما الذي تفعله بنا هذه اللعبة. كانت إجابتي كالتالي، من الأفضل القول ماذا فعلنا نحن بكرة القدم وكيف جعلناها نحن لعبة خطرة على السلم الاجتماعي. أجبته وفي البال فكرة أساسية وهي أن كرة القدم منظورا إليها موضوعيا هي لعبة ديموقراطية، نشأت في أنقلترا زمن الثورة الصناعية وصيغت قوانينها الكبرى في إحدى أعرق الجامعات، جامعة كومبردج.
نشأت اللعبة بقواعد ضابطة وبتعليمات صارمة، وكانت إعلانا على ظهور أهم القواعد الديموقراطية وهي قاعدة الجدارة عند التنافس. نشأت اتقول أن الوجود البشري يحتاج تظافر الجهود الفردية و الجماعية لتحقيق شيئ ما. نشأت أيضا لتدلنا على علاقة واضحة ودقيقة بالزمان وبالمكان، وبرزت لتعلمنا كيف نقسط جهودنا من أجل بلوغ أهدافنا وكيف نكون عقلانيين قدر الإمكان في لعبة فيها الكثير من اللايقين. علمتنا كيف نسيطر على هذا اللايقين وكيف نطوعه جماعة وأفرادا. وعلمت اللعبة البشرية التي تمارسها والتي تشاهدها أن التنافس لا يتمّ إلا في ظل قواعد واضحة يلتزم بها الجميع ويقع تطبيقها بالتساوي بينهم. هي مظهر من مظاهر العدالة والمساواة أو على الأقل هذا ما تبشر به. الواقع الذي تُجرى فيه هذه اللعبة مسألة أخرى، هنا يتدخل البشر ليفعل فعله في اللعبة، هل يلتزم قدر الإمكان بقيم اللعبة أو يترك قيمها جانبا. ولهذا لا تُمارس اللعبة بنفس الشكل وبنفس الطريقة وفق اختلاف الثقافات والمجتمعات. بالقدر الذي نلعب فيه كرة القدم ونتعامل معها كمبدأ أساسي للجدارة، هنا نكون اقتربنا أكثر ما يمكن من مبادئها وحين نمارس اللعبة ونديرها بعيدا عن هذا المبدأ فإننا في هذه الحالة نستدعي قيما أخرى مثل التوافق و الزبونية و المحاباة و متطلبات الكواليس. المهمّ هنا نذهب بمبدأ الجدارة إلى مستوياته الدنيا. هما نكون خسرنا كرة القدم وخسرنا في الآن ذاته قيمها ومبادئها الديموقراطية.
تتالت الأحداث الأسبوع الماضي لنقف على حقيقة أن كرة القدم لم تعد لعبة فقط. إنها رهان متعدد الأشكال. فرصة كبيرة للاحتجاج ولتعديل البوصلة، بنفس الزخم يحتج الناس على شيء لم يعجبهم في كرة القدم وفي نواديهم كما يحتجون على قضية أخرى سياسية اقتصادية داخلية وخارجية. هنا معطى جديد، ما الذي يجعل الناس تحتج وتهتم بها هذه المشاعر بكرة القدم. قد يكون ذلك مرتبطا بأن اللعبة هي اختزال للقيم الإنسانية، لقيم العدالة والمساواة والحصول على الحق، هي اختزال لإمكانية الصعود الاجتماعي عندما يعزّ الصعود و تتعطل المسارب، هي الإمكانية التي تُتاح لجهة منسية لأن تبرز بين الأنقاض، هي إمكانية لفرد تتقاذفه الصعوبات كي يقول ها أنا موجود أستحق احترامكم و تقديركم.
لم يعد المناصرون للعبة يحتجون فقط على النتائج وعلى الآداء، إنهم حولوا احتجاجهم لأشياء أخرى. إلى حوكمة النوادي، إلى كرة القدم البيزنس التي تحرمهم من المتعة أو على الأقل تطالبهم بالدفع من أجلها. لقد دخلوا باحتجاجهم إلى مناطق أخرى، مناطق المساءلة الاجتماعية مثلما هي موجودة في مساءلات مؤسسات الدولة. يريدون المشاركة في إدارة كواليس اللعبة وكواليس النوادي. إنهم يريدون التحول من مجرّد مستهلكي الفرجة الكروية إلى فاعلين يصنعون تفاصيلها وتوجهاتها. اللعبة لديهم فرجة ديموقراطية يستمتع بها الجميع وبكامل الشفافية والوضوح بعيدا قدر الإمكان عن رهانات الشركات الكبرى ومصالحها. وبعيدا كذلك عن الفعل السياسي الذي يريد استثمار شعبية اللعبة لفائدة موقعة السياسي وموقعه من السلطة.
ما وقع الأسبوع الماضي فيما يتعلق بالجولة الأخيرة من بطولة كرة القدم يكشف لنا كيف يمكن أن تكون كرة القدم مجالا للايقين والأهم من ذلك كيف نُدير حالة اللايقين. في كل الأحوال كان خطاب المناصرين والمتابعين متجها إلى موارد أخرى غير الجدارة، كان موردهم الأساسي عناصر التاريخ والهوية والذاكرة.
كرة القدم، هذا المارد الذي يصنع حياتنا
- بقلم محمد جويلي
- 10:22 25/05/2021
- 2367 عدد المشاهدات
سألني أحد الصحفيين عن الذي جرى الأسبوع الماضي في علاقة بالجولة الأخيرة لبطولة تونس لكرة القدم وقال لي كيف