احتلت زيارة الوفد الحكومي التونسي منذ 3 ماي الجاري الي واشنطن برئاسة السيد علي الكعلي وزير الاقتصاد والمالية والاستثمار للتفاوض مع صندوق النقد الدولي (الآف أم إي) حول برنامج تونس للإصلاحات الاقتصادية الكبري حيزا هاما من انشغال الطبقات السياسية والاقتصادية والإعلامية والفكرية والمجتمع المدني ،امتد الي الراي العام ليصبح حديث الساعة،رغم انشغال البلاد بجاءحة الكوفيد 19 وما خلفته ولاتزال من نتاءج كارثية ، زادت الطين بلة.....
وقد ترافق هذا الانشغال بالمفاوضات مع الصندوق باجواء من التشكيك والسلبية والخوف وحتي التشاؤم بعد ان ذهب عدد من الخبراء التونسين المرموقين في الاقتصاد والمال الي التاكيد علي ان الحكومة لن تكون قادرة علي التوصل الي الاتفاق التمويلي التي تامله وكما تريده مع الصندوق ، وكما انها لن تكون قادرة هذه المرة وربما اكثر من المرات السابقة علي الايفاء في الاجال بتعهداتها تجاه الصندوق..، حتي ولو توصلت الي ابرام اتفاق معه .. معللين ذلك بما شهدته العلاقات بين الطرفين منذ بضع سنوات من مد وجزر ....فيما ذهب آخرون الي القول بان تونس ستتمكن من التوصل الي اتفاق مع» الفامي «وستستطيع مع الوقت الخروج تدريجيا من المحنة رغم ماستعيشه من صعوبات اقتصادية اضافية كبري اكثر من اي وقت مضي ومن اضطرابات اجتماعية غير مستبعدة......
ودون الدخول في التفاصيل الفنية، السؤال الاهم الان هو معرفة مدي قدرة الحكومة علي إنجاز الاصلاحات في الاجال التي ستتعهد بها للصندوق في ضل ماتواجهه البلاد منذ عشرة سنوات ولاتزال من اكراهات ومناخات سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة التعقيد ، تراجعت فيها بصفة واضحة سلطة الدولة والادارة وصعدت فيها قوي اخري نافذة نخص بالذكر منها الشارع و النقابات والاعلام والمجتمع المدني ...، لاتشاطر بالضرورة سياسات الحكومة وتوجهاتها ورؤاها في عدد من الميادين......وفي ضل مايتهدد المجتمع من هزات اجتماعية كبري يمكن ان تهدد جديا استقرار البلاد ومؤسسات الدولة......
في هذا الصدد، تعلم الحكومة جيدا انها تتحرك في مربع ضيق وخطير جدا ...فمن ناحية اولي ليس لها خيار اخر سوي الالتزام بتعهداتها والكف عن انتهاج سياسات الحكومات السابقة في الهروب الي الامام .....هي تعلم انه عليها الشروع بسرعة في الاصلاحات مهما كانت صعوبتها لان دفع التنمية و النهوض باقتصاد البلاد يحتمان ذلك ......ومن ناحية ثانية هي واعية جدا انها ستواجه جدار الصد وحتي الرفض من طرف السواد الاعظم من الشعب الذي اكتوي ولايزال بسياط الاسعار واصبح اليوم شبه عاجز علي مزيد تحمل اعباء الحياة اليومية بعد ان تردت احواله المعيشية بصفة واضحة و ازدادت نسب الفقر فيه وتراجع كثيرا منسوب ثقته في الدولة وفي المنظومة الحاكمة و في النقابات.... واصبح اصما امام اصوات الحكومة التي تدعوه بقوة الي مزيد التقشف ...وتقاسم التضحيات ...والانتظار ريثما تتحسن الاوضاع ...
في جميع الميادين التي ستتمحور حولها الاصلاحات الكبري المرتقبة ...أكانت تتعلق بمزيد تحرير الاسعار او بصندوق التعويض وماسيشمله من رفع الدعم عن جميع المواد وبالخصوص الاساسية كاالخبز والزيوت والسكر..لتوجيهه الي الطبقات المستحقة ... وكذلك علي الكهرباء والغاز والماء والمحروقات او تقليص بنسبة معينة (15%) من الحجم الهائل لكتلة الاجور في الوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية او التقليص في العدد الهاءل للاعوان العمومين او مراجعة الساسية الجبائية او اصلاح المؤسسات العمومية......سوف لن تجد الحكومة الطريق معبدة امامها وهي تعلم انها امام ملفات شاءكة تهم بالخصوص حياة ومستقبل الطبقات المتوسطة او ماتبقي منها والطبقة الشعبية ...التي ماانفكت المنظومة الحاكمة الجديدة منذ عشرة سنوات تعدهما بالازدهار وبالرفاه وتحقيق اهداف الثورة في الحرية والشغل والكرامة لكن دون نتاءج ملموسة....
السوال إذن كيف ستتصرف الحكومة الحالية او الحكومة التي ستاتي بعدها تجاه هذه الملفات الاساسية والمعضلات الحقيقية العويصة...وماذا اعدت لذلك..؟.. وهل ستكون فعلا قادرة علي انجاز هذه الاصلاحات التي تعهدت بها لصندوق النقد الدولي وللاتحاد الاوروبي وغيرهما من المانحين.؟.
كما ان الاشكال يكمن في مضمون هذه الاصلاحات وطرق تنفيذها وجدولة تفعيلها ومدي قدرة و استعداد الشعب و المعنين بها مباشرة والشركاء الاجتماعين للحكومة اي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاحين وغيرهما للقبول بها والتعامل معها بواقعية ومسؤولية في ضل تجاذبات سياسية كبري وساحة سياسية مازومة ومناخات اجتماعية مشحونة ومجتمع منهك غير مستعد الي مزيد من التضحيات و غير قادر علي التماهي مع اصلاحات عميقة يعرف مسبقا انها ستكون لها انعكاسات ومضاعفات مباشرة علي حياته اليومية ...
في هذا الاطار تجدر الإشارة الي الحوار الاجتماعي الذي شرعت فيه الحكومة والي الاجتماعات التي عقدتها منذ ثلاثة اشهر في الغرض بدار الضيافة في قرطاج مع الاطراف الاجتماعية الاساسية، قبل التوجه الي واشنطن لملاقاة صندوق النقد الدولي وشركاءها الدولين، وكذلك الي الاتفاقيات الثلاثية بينها وبين المركزية النقابية ومركزية رجال الأعمال وماتم ارساؤه من فرق تفكير متخصصة حسب الملفات للتشاور العميق بخصوص الاصلاحات المرتقبة......
.لكن هذا لايكفي البتة....
فلم يعد هنالك مكان اليوم لمزيد إهدار الوقت ولا للتجاذبات ولا إلى التلكؤ من اي طرف كان ولا المزايدات ولا للحسابات الضيقة بعد ان باتت البلاد مهددة بالافلاس واصبحت مرتهنة بصفة واضحة الي الداءنين الخارجين وتراجعت بشكل كبير صورتها علي الساحة الدولية... ..وقد بات من باب الوطنية علي كل الجهات التحلي بالحكمة وبروح المسؤولية لتمكين البلاد من الخروج من عنق الزجاجة..
ينتظر الحكومة عمل جبار لرفع هذه التحديات ....عليها ان تتوجه مباشرة الي الشعب للتحدث اليه وتوعيته بما ينتظره واقناعه بان الجميع وخصوصا الطبقة الميسورة ستتقاسم معه بصفة ملموسة وواضحة التضحيات كما أنه عليها اعلامه بما تعتزم اتخاذ ه من اجرءات عملية سريعة لارساء العدالة الجباءية وللمحافظة علي قدرته الشرائية وللضغط الحقيقي علي الاسعار ومقاومة التسيب والفساد والرشوة المنتشرة والاثراء الفاحش وغسيل ونهب الاموال والتهريب والتجارة الموازية....وغيرها من الآفات التي نخرت ولاتزال اقتصاد ومعنويات البلاد طيلة العشرية الاخيرة التي انقلبت فيها كل الموازين رأسا علي عقب....
الحكومة امام تحديات كبري وهي مدعوة اليوم الي وضع استراتجية عمل واقعية و الشروع بمنهجية وبسرعة في تفعيل اعمال الفرق الثلاثية التي انشاتها مؤخرا للتفاوض في اطار سقف زمني معقول؛ستة أشهر علي اقصي تقدير، حول جميع نقاط وتفاصيل الاصلاحات للخروج بنتائج وتوافقات عملية يلتزم الجميغ بها ،تاخذ في الاعتبار المصالح الوطنية ومصالح الشعب ومصالح كل الفاءات الاجتماعية في اطار سياسة اجتماعية عادلة ومتوازنة تراعي الجميع.... وهي مدعوة الي تشريك الاحزاب الفاعلة و منظمات المجتمع المدني والخبراء ...
كما انه بامكان رءيس الحكومة منذ الان تكليف عضو من الحكومة من ذوي التجربة او مسؤول سام من المتضلعين في الشوؤن الاقتصادية والاجتماعية علي غرار محافظ البنك المركزي السابق لادارة هذه المفاوضات ... كما ان الحكومة مدعوة أيضا الى إرساء سياسة تواصلية مباشرة وعبر التلفزة الوطنية بصفة اسبوعية لاطلاع الشعب علي محتوي هذه الاصلاحات حتي يكون علي بينة منها في الوقت المناسب مما يضمن انخراطه تدريجيا في السياسات العامة الجديده للدولة ويقي المجتمع ما قد يحدث من هزات اجتماعية كبري .....
فهل ستقدر الحكومة علي انجاز هذا البرنامج العريض والحساس في الاجال....ورفع التحديات...؟ هل سيعي الاتحاد العام التونسي للشغل دوره و مسؤولياته التاريخية في الغرص ...؟ وكذلك هل ستعي الطبقة الراسمالية دورها ومسؤولتها التاريخية ؟.الكل يامل في ذلك.... ولو ان عدم مشاركة اتحاد الشغل مع الوفد التونسي في المفاوضات الحالية مع «الآف أم إي» لاتطمئن....
الشيء المؤكد انه ليس للحكومة ولا للبلاد خيار اخر و عليها ان تشرع دون مزيد من الانتظار في تدقيق هذه الاصلاحات ...وتامين افضل الظروف لانجاحها.....ووضعها تدريجيا حيز التنفيذ في اطار برنامج متكامل يهم كل الملفات ...ولايستثني اي ملف...
هذا هو الطريق الأمثل لوضع البلاد مجددا علي السكة ولكسب ثقة المانحين الدولين والمستثمرين المحلين وتامين رجوع الماكينة الاقتصادية للدوران بعد عشرية سيطرت عليها الهوايتية والفوضوية والزبونية وتراجعت فيها البلاد اشواطا كبري الي الخلف......علما انه ليس لنا طريق اخر اذا مارمنا وضع حد للعبث وتامين افضل الظروف لاقلاع بلادنا اقتصاديا في اقرب الاجال الممكنة وحمايتها من كل المغامرات غير محسوبة العواقب..
تونس / صندوق النقد الدولي: وماذا بعد؟ لنبدأ الاصلاح في عقر دارنا ...
- بقلم المغرب
- 09:25 21/05/2021
- 661 عدد المشاهدات
بقلم: رؤؤف الشطي سفير سابق
في ظل ماتعيشه البلاد من ازمات مؤسساتية وسياسية واقتصادية ومالية مزمنة منذ تسونامي جانفي 2011، لاعهد لها بها ،