هل يمكن للنيابة العمومية أن تأذن بإجراء بحث يتعلق بعمل إداري بحت

وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية سوسة 2 ادريس حريق
من مهام النيابة العمومية المنتصبة لدى محاكم الجمهورية البتّ في الشكايات. إذ يرد يوميا على النيابة العمومية في جميع المحاكم التونسية

عدد كبير من الشكايات وهذا العدد يختلف حسب أهمية مرجع نظر تلك المحاكم , وحين ترد هذه الشكايات تجتهد النيابة العمومية في تحديد مآلها فإذا كانت الشكاية تكتسي طابعا جزائيا تأذن النيابة العمومية بفتح بحث جزائي لدى مركز الأمن المختص ترابيا بالنظر تبعا لمقر الشاكي وكذلك المشتكى به أو تبعا لمكان ارتكاب الجريمة , لكن إذا كان موضوع الشكاية متعلقا بنزاع مدني كأن تكون له صبغة استحقاقية مثلا أو شخصية الى غير ذلك من النزاعات المدنية فان النيابة العمومية تتولى حفظ الشكاية للصبغة المدنية للنزاع وتتولى عندها إرشاد الشاكي إلى اتباع سبل التداعي المدني .
هذا النوع من الاجتهاد في مآل الشكايات من طرف النيابة العمومية اجتهاد أولي وقبل فتح أي بحث في الموضوع لأنه لا فائدة من إجراء بحث في نزاع يكتسي صبغة مدنية سيقع حتما لاحقا حفظه فلا فائدة من إثقال كاهل باحث البداية والمحكمة في أبحاث تكتسي صبغة مدنية لذا يتعين حفظها منذ البداية، لكن إن رأت النيابة العمومية أن النزاع يكتسي صبغة جزائية كأن يكون الشاكي تعرض مثلا للاعتداء بالعنف أو للسرقة فإنها تأذن بإجراء بحث جزائي في الموضوع وذلك في إطار ممارسة مهامها في تتبع المجرمين، وبعد انتهاء الأبحاث هنالك رقابة واجتهاد ثان من طرف النيابة العمومية يتعلق بتقرير مصير تلك المحاضر والأبحاث والتي بعد استكمالها يمكن للنيابة العمومية أن تقرر إحالتها على المحاكم المختصة بالنظر سواء أكانت محاكم نواح أو مجالس ابتدائية حتى يلقى المجرم جزاء أعماله الإجرامية التي ارتكبها والتي أضرت بحقوق الشاكي، كما يمكن للنيابة العمومية إن كانت الجريمة من نوع الجنايات أن تأذن بفتح بحث تحقيقي في الموضوع باعتبار أن الجريمة المرتكبة من طرف الجاني تكتسي صبغة جنائية . كما يمكن للنيابة العمومية أن تقرر حفظ الشكاية بعد استكمال الأبحاث لعدة أسباب منصوص عليها في مجلة الإجراءات الجزائية نذكر من بينها الصبغة المدنية للنزاع لأنه كما ذكرت أولا النيابة العمومية لا تنظر في النزاعات المدنية فاذا ما تبين بعد اجراء الأبحاث اللازمة أن النزاع يكتسي صبغة مدنية فان النيابة العمومية تقرر الحفظ. ولنضرب لذلك مثلا : يتقدم شخص ما بشكاية الى النيابة العمومية الراجع لها بالنظر موضوعها أن رئيس البلدية التي يوجد بها مقر سكناه تولى هدم منزله أو جزءا منه بموجب قرار في الهدم يراه تعسفيا ويتولى الشاكي في شكايته توجيه عدة جرائم لرئيس البلدية المذكور فينسب له مثلا جريمتي الإضرار عمدا بملك الغير واقتحام محل سكناه عنوة ودون إذنه وهذه الأفعال قد ارتكبها رئيس البلدية فعلا فدخول محل سكنى الشاكي لتنفيذ قرار الهدم من طرف رئيس البلدية قد حصل فعلا وهدم منزل الشاكي أو جزء منه قد حصل فعلا مع ذلك فانه وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للنيابة العمومية أن تفتح بحثا جزائيا ضد رئيس البلدية المعني بالموضوع لأن هذا الأخير حين قام بتنفيذ قرار الهدم لم يقم بذلك بصفته الشخصية وإنما قام بذلك بصفته الإدارية لأنه يمثل السلطة المحلية للدولة ومن صلاحياته إصدار قرارات الهدم وتنفيذها ولا يمكن بأي حال من الأحوال تتبعه من أجل ذلك.
إذن لا يمكن فتح بحث جزائي وتتبع رئيس البلدية المذكور حين قام بتنفيذ قرار بالهدم حتى وإن كان ذلك القرار قرارا تعسفيا ولم يكن محترما للإجراءات القانونية التي من المفروض أن يحترمها عند قيامه بذلك لأن مراقبة هذه القرارات والطعن فيها من أجل تجاوز السلطة من اختصاص هيكل قضائي آخر ألا وهو المحكمة الإدارية التي لها وحدها حق النظر في الطعون في القرارات التعسفية الصادرة عن الإدارة من أجل تجاوز السلطة .

لا يمكن تتبع رئيس البلدية لأنه يمثل الإدارة والإدارة تعني الدولة والدولة تمثل السلطة الشرعية والأفعال الصادرة عن السلطة الشرعية غير خاضعة للمؤاخذة الجزائية طبقا للفصل 42 من المجلة الجزائية وغير خاضعة تبعا لذلك لأي تتبع جزائي . يمكن تتبع رئيس البلدية مثلا إذا ارتكب جريمة لا علاقة لها بصفته ولا تمثل جزءا من مهامه يمكن تتبعه مثلا من أجل الاعتداء بالعنف على شخص حتى وان كان المتضرر يعمل بالبلدية التي يترأسها يمكن تتبعه من أجل جرائم منفردة ارتكبها ليس لها علاقة مباشرة بعمله الذي يقوم به هذا مع استثناء وحيد هو أنه مثلا حين يقوم رئيس البلدية مثلا بتنفيذ قرار بالهدم يرتكب جريمة بمناسبة تنفيذه لذلك القرار مثل أن يعتدي بالعنف على من يقع التنفيذ عليه فانه يمكن تتبعه من أجل تلك الجريمة وإذا ما استولى على أموال وضعت تحت يده بمناسبة وظيفه يمكن تتبعه من أجل ذلك لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصبح العمل الإداري الذي يقوم به رئيس البلدية وهو تابع لصميم عمله موضوع تتبع جزائي لأنه كما سبقت الاشارة اليه أولا فان مراقبة مدى مطابقة احترام الأعمال الإدارية التي قام بها رئيس البلدية للقانون عند تنفيذه للقرار البلدي ليس من اختصاص النيابة العمومية بل هو من الاختصاص المطلق للمحكمة الإدارية وحدها التي خول لها الدستور تلك المهمة لكن إذا ما تولت النيابة العمومية تتبع رئيس البلدية المذكور رغم أنه لم يفعل سوى ممارسة مهامه الدستورية لذا فان النيابة العمومية قد ارتكبت خطا قانونيا جسيما .
إن الإدارات والهيئات الدستورية بأنواعها تمثل جسما واحدا وعلى هذا الجسم أن يعمل بتناسق تام كل يعمل في حدود اختصاصه ويتمتع بكامل صلاحياته وبالأدوات والضمانات الكافية التي تمكنه من القيام بعمله على أحسن وجه فاذا ما أصبح الموظف العمومي يتعرض عند قيامه لعمله للتتبع الجزائي رغم أنه لم يفعل سوى واجبه المحمول عليه فانه يمكننا القول أن جسم الدولة به خلل ولم يعد يعمل كما يجب وهذا الخلل وهو ما يعبر عنه بالفرنسية (disfonctionnement) خطير جدا لأنه ينبئ بضعف الدولة وهوانها وبداية انهيارها لذا علينا أن ننتبه جيدا لمثل هذه الأعمال لأن تبعاتها خطيرة جدا .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115