بل إنّ بعض المفكّرين ذهبوا إلى اعتبار ظهور «الجامعة» في بلد ما بمثابة «الحدث الأساسي في وجودنا الفكري» وفي وجودنا الاجتماعي أيضا.
ولئن ارتبطت نشأة الجامعة في العالم الغربي كما في عالمنا العربي بتصدر المعرفة باب الاهتمامات، سواء من جهة إنتاجها أو من جهة نقلها وحفظها، وكذلك باستنادها إلى قيم العدالة والحرية والمساواة فنصّت عليها الدساتير وجملة التشريعات المؤسسة لها، إلاّ أن ما نشهده في العالم اليوم من غياب أو انحسار لهذه المبادئ والقيم يدعونا إلى إعادة التفكير في ما ننتظره من الجامعة كهيكل أكاديمي وكأساس من أسس إنتاج ونقل المعارف في مختلف الاختصاصات وكمقياس تقاس من خلاله درجة تقدم المجتمعات وارتكازها على مبادئ الديمقراطية.
إنّ أول ما يمكن أن نلاحظه لحظة طرح السؤال الأهم في رأينا ألا وهو سؤال «ما الذي ننتظره من الجامعة؟» أو أيّ دور لها اليوم وقد تجاوزت لحظات التأسيس، هو تراجع الجامعة عن دورها التنويري التقدمي وانحسار جهودها في التدرب على المهارات وإنتاج التقنيات بغاية تأهيل المتعلم لمهنة مما جعلها تبتعد -وإن نسبيا- عن ذلك الدور الذي لازم ظهورها في العالم وفي بلادنا منذ ستينات القرن الماضي. وإلى جانب هذا الدور التنويري -باعتبارها منارة للعلم وللفكر وأحد أسس الحداثة- عدّت الجامعة ركيزة من ركائز نمو وتقدّم المجتمع. وما أهّلها لذلك هو قيامها على مبدأين أساسييّن قامت عليهما جلّ الجامعات وهما مبدأ المساواة ومبدأ العدالة إلى جانب مبدأ الحرية الأكاديمية.
ورغم ما ساد مبدأ «استقلالية الجامعة» من محاولات للهيمنة من طرف السلطة الحاكمة منذ «لحظة التأسيس» الأولى، إلاّ أنّ الإقرار بإلزاميّة وبمجانيّة التعليم وبتكافؤ الفرص -أي بالعدالة والمساواة- ظل قائما سواء في دستور 1959 أو في دستور2014 (خاصّة الفصل 12 والفصل 21).
لكن رغم هذا الإقرار الظّاهر في النّصوص والقوانين والخطب، فإن واقع التعليم العالي في تونس اليوم، وبعد عشر سنوات على الثورة، ينبئ بغير ذلك. لتبيّن ذلك يكفي أن نتناول هذا الأمر من زاوية العلاقة بين المعرفة والعدالة -في وجهيها الاجتماعي والإبستمي- حتى تتبين لنا الفجوة بين ما يقرأ في النص وما نشاهده في الواقع من مظاهر اللاعدالة واللامساواة في جامعاتنا بشكل ينبئ بخطورة الأزمة التي يعيشها نظامنا التعليمي. أزمة وصفت لدى بعض الباحثين بأنّها توشك أن تدمّر النظام المعرفي بتفكيك أحد مقوماته ونقصد بذلك المعرفة العادلة.
• مظاهر اللاعدالة في التعليم العالي في بلادنا
إن منطلقنا في الحديث عن اللاعدالة هو التعريف الذي يضعه جون راولز لما يقابلها أي العدالة بما هي إنصاف. وبناء عليه يمكن القول إنه توجد مظاهر ثلاثة تكشف لنا عمّا سمّيناه باللاعدالة في المعرفة في بلادنا وفي العالم في ظل النظام النيو ليبرالي المهيمن عالميا ومحليا إلى حد يمكن اعتباره «أخطر جائحة اقتصادية عرفها عالمنا المعاصر». هذه المظاهر التي سنشير إليها في مقالنا تكشف لنا أنّ التوزيع غير العادل للثروة ينتج عنه حتما التوزيع غير العادل للمعرفة وهذا ما يفاقم الأزمة التي تعيشها البلاد سياسيا واجتماعيا. ومع تنامي التعليم العالي الخاص والتعليم الأجنبي في بلادنا أصبح بإمكاننا أن نلاحظ تنامي هذه الفوارق بشكل لا يدعو إلى التشكيك فيها. ومن نتائج ذلك أن أصبح التعليم العالي في العالم وفي بلادنا سلعة داخل سوق يحكمه قانون العرض والطلب ولا يقدر عليه إلا فئة قليلة من ذوي الدخل المرتفع.
أول مظهر من مظاهر اللاعدالة في نظامنا التعليمي وفي جامعاتنا هو غياب تكافؤ الفرص. والمقصود من مفهوم تكافؤ الفرص في التعليم العالي هو توفير فرص تعليم متكافئة غايتها تنمية استعدادات كل فرد لبلوغ أقصى ما تسمح به قدراته الذهنية بغضّ النظر عن حالته المادية أو مستوى عيشه الاقتصادي والاجتماعي أو جنسه أو انتمائه الطبقي. ويعني ذلك القدرة على الاستمرار في الدراسات العليا وتلقي حصة متكافئة من المنافع المعرفية والاجتماعية. ولئن مثّلت مجانية التعليم أحد الوسائل للحد من غياب تكافؤ الفرص إلا انّ هذه الفرصة لا تعني بالضرورة تحقيق العدالة المعرفية لكافة أبناء المجتمع، فالواقع يكشف لنا عن درجات متفاوتة هي الأخرى في غياب تكافؤ الفرص.
ولعل أبرز الانتهاكات لهذا المبدأ هو الفوارق القائمة في أنماط التعليم ما قبل الجامعي بين تعليم حكومي وتعليم خاص وبين مدارس ومعاهد حكومية تغص بالتلاميذ ولا تتوفر-إذا ما استثنينا المعاهد النموذجية ربما- على مقومات العملية التعليمية ومدارس ومعاهد أخرى تتوفر على خدمات تعليمية متميزة تهيؤهم بشكل أفضل للحصول على أفضل الظروف المتاحة لتحصيل المعرفة. هذه الفوارق هي عينها التي تشهدها جامعاتنا وهذا ما يؤكده الاهتمام المطرد بمسالة الفوارق الاجتماعية في التعليم العالي من طرف علماء الاجتماع في العالم (إذ يقر بيار بورديو مثلا أن «الفوارق قائمة في قلب التعليم العالي») أو في تونس من خلال جملة ما توصل اليه مجموعة من الباحثين من خلال إقرارهم بأن ازدياد الفقر يزيد باطراد من انتقائية التعليم العالي، وبذلك يتحول التعليم العالي شيئا فشيئا إلى أداة لتكريس الفوارق الاجتماعية بفعل «العلاقة القائمة بين المعرفة والسلطة في بلادنا وفي البلاد العربية عموما» (محمد صالح العمري، أفريل 2020) .
ولعل غياب تكافؤ الفرص بين الجهات أيضا هو ما يفسر ما نص عليه دستور 2014 من تمتيع أبناء هذه الجهات «بالتمييز الإيجابي» الذي سيمكنهم من الدخول الى كليات ظلت صعبة المنال في ضوء انعدام تكافؤ الفرص مثل كليات الطب والمدارس التحضيرية لعلوم الهندسة. كما أن مستوى الخدمات الجامعية والتربوية من مطاعم ومكتبات يقلل من هذه الفرص مما يفرض على مجموعات من الطلاب مغادرة مقاعد الكلية منذ السنة الأولى من التعليم العالي ولعل أكبر مثال على ذلك هو ما عشناه خلال السنة الجامعية 2020-2021 بسبب جائحة كوفيد19 واضطرار الهيئات التعليمية الى فرض ما يسمى لدى البعض «تعليما عن بعد» ولدى البعض الآخر «تواصلا بيداغوجيا». إنّ ما كشفته هذه الجائحة هو أن نظامنا التعليمي -بالرغم من الجهود المبذولة من الأساتذة والطلبة والمؤسسات الجامعية- غير مؤهل بعد للتعليم عن بعد وذلك بالنظر إلى إمكانيات المؤسسات الجامعية من جهة وبالنظر إلى الإمكانيات الذاتية للطلبة من جهة أخرى وهذا ما يفسر ربما رفض النقابات له.
أما المظهر الثاني من مظاهر اللاعدالة في التعليم العالي فهو غياب المساواة. ولهذا تعتبر قضية المساواة اليوم قضية مركزية في تحليل أنظمة ومؤسسات التعليم العالي وبشكل أعم في فهم دور المنظومة الجامعية في فهم الديناميكيات المجتمعية في هذا البلد أو ذاك. وما يلاحظ في هذا الشأن أنه برغم تفاخر منظومتنا التعليمية منذ الثمانينات بتحقيقها لشعار «مجتمع المعرفة» فإنها وبالتوازي رفعت شعار «مدرسة الامتياز» في تجاهل تام للفوارق الاجتماعية بين طالبي المعرفة. والسؤال الذي نطرحه مرة أخرى هو كيف نفهم هذا التناقض بين مطلب «مجتمع المعرفة» في ظل مجتمع قائم على اللامساواة؟ يضاف إلى ذلك غياب المساواة بين المؤسسات الجامعية ذاتها والتمييز الملحوظ بين جامعات المدن الكبرى وجامعات الجهات الداخلية وبين جامعات تؤهل طلبتها للتشغيل وجامعات تؤهل طلبتها للبطالة مثلما يلاحظ ذلك في الأعداد المتزايدة للمعطلين من حاملي الشهادات العليا. فأيّ معنى عندها للدور المنوط بالجامعة لحظة تأسيسها أي دورها في الحفاظ على التماسك الاجتماعي وفي تحقيق التنمية المستدامة؟ ألا يكشف واقع اللامساواة في أبعاده المتعددة (بين الفئات والجهات والأفراد) عن وقوع التعليم العالي تحت سطوة أحكام السوق؟ ألا يساهم ذلك في إضعاف المسار الديمقراطي إلى حد يفقد الديمقراطية معناها ويفرغ الاقتصاد الاجتماعي التضامني من كل أهدافه؟ ألا يسير نظامنا التعليمي إلى إنتاج «النخب» وبالتالي إلى الحيف المعرفي وهو ثالث مظاهر اللاعدالة من زاوية نظر ما يسمى اليوم نظرية «اللاعدالة الإبستمية».
وما يشهد على ذلك ما نراه اليوم في العالم من تمييز غير مبرّر، بل وظالم بين «العلوم الطبيعية « و»العلوم الإنسانية». الأولى يصفها البعض بالعلوم «النبيلة» أما الثانية اي تلك التي تنتمي الى الفنون والانسانيات فإنها تتدحرج شيئا فشيئا إلى أسفل سلم الترتيب المعرفي باعتبارها «غير منتجة». وهو ما يعبّر عنه فوكو بمفهوم «الأيديولوجيا التقنوية». بعيدا عن الأرقام والإحصائيات، خطورة هذا «التحقير» من شأن الانسانيات عموما والعلوم الإنسانية خصوصا، تتجاوز «الظلم المعرفي» لما لها من تأثير في تغييب الفكر النقدي في عقل المتعلم مما أدى في بلداننا العربية بوجه عام وفي بلادنا بوجه خاص الى «انتشار الفكر المتشدد والخطاب الهووي داخل الجامعة» وفي المجتمع مثلما يلاحظ ذلك الباحث التونسي محمد صالح العمري مستندا في ذلك إلى ما كشفت عنه «دراسات في مصر وتونس وغيرها من وجود علاقة بين هذا الفكر المتشدد وتدريس العلوم الصلبة بمعزل عن العلوم الإنسانية». وهو أيضا ما كشفت عنه الباحثة حياة عمامو في دراستها حول «الانسانيات في منظومة التعليم العالي بتونس: كفاءات أفقية أم علوم مؤسسة» التي قدمتها ضمن ندوة نظمتها «جمعية فواصل» مؤخّرا.
• خاتمة: من أجل توزيع عادل للمعرفة
رغم مظاهر اللاعدالة التي عرضناها هنا فإننا لا يمكن أن ننكر الجهود التي تبذلها بعض الجامعات من أجل تحقيق «الجودة في التعليم العالي». لكن مطلب الجودة لا بد أن يرفق بمطلب العدالة في بعديها الاجتماعي والمعرفي. كما أن مظاهر اللاعدالة تلك لا تعني غياب الحلول التي من شأنها أن تحد منها. لكن ما يمكن الجزم به هو أنه لا يمكن تحقيق العدالة في مجتمع غير عادل لذا فإن أقصى المطلوب اليوم هو الحد من مظاهرها والعمل على تخفيف أضرارها بعلاج أسبابها الظاهرة. والحلول الممكنة إزاء هذه اللاعدالة تكمن في رأينا في دعم تكافؤ الفرص في الجامعة وتحقيق المساواة الفعلية في المجتمع واستعادة العلوم الإنسانية لدورها التأسيسي بما يجعلها مؤهلة لتكوين مواطن حر ومعتز بانتمائه لوطنه وبكرامته الإنسانية.
الجامعات التونسية والعدالة المعرفية: من أجـــل توزيع عادل للمعرفة
- بقلم المغرب
- 09:51 26/04/2021
- 1317 عدد المشاهدات
بقلم: حياة حمدي
جامعة تونس
أن نعدّ ظهور الجامعة في كل أمّة حدثا جوهريا في تاريخها، فذلك ما لا يختلف حوله كلّ من درس تاريخ ظهور الجامعات عبر تاريخنا الحديث.