كان خارج التوقع. لاعبون يمارسون كرة القدم في أعتى البطولات الأوروبية يحملون حقائبهم ويتجهون نحو المعنى. يدركون جيدا أنهم تركوا شغفهم باللعبة وغادروا، دون إكراه، يدركون أيضا أنهم تركوا وراءهم الجاه والسلطة الرمزية والمال من أجل الثورة، من أجل الحرية، من أجل الجزائر.
هم من حيث العدد ثلاثون لاعبا جزائريا محترفا في البطولة الفرنسية لكرة القدم أعلنوا العصيان الكروي بعد انتهاء الجولة الثلاثين للدوري ذات أحد موافق ل 13 أفريل 1958. قصدوا تونس على دفعات، كان استقبالهم سياسيا، الرئيس الحبيب بورقيبة في مقدمة المستقبلين يرافقه الزعيم الجزائري فرحات عبّاس رئيس حكومة جبهة التحرير الوطني آنذاك. أتجه جميع اللاعبين وهم عشرة وبالكاد يكوّنون فريقا لكرة القدم دون احتياطيين إلى فندق «الماجستيك» في قلب العاصمة أين استقروا مدّة حتى يتمّ إسنادهم شققا في المنزه صحبة عائلاتهم. كل الأشياء مرتّبة بعناية فائقة، لقاء صحفي و تغطية إعلامية منقطعة النظير، مسؤول مرافق يرتّب المسرحة السياسية للحدث و هم محمد علاّم ومرافق كروي صاحب الفكرة و مهندسها محمد بومرزاق، التداخل بين السياسة و كرة القدم في أبهى الحلل الثورية. هي ثورة داخل الثورة...
الثورات الكبرى بسرديات صغرى
الثورات تنتعش بسردياتها الكبرى كما الصغرى، اسألوا الثوار. مصطفي زيتوني، قلب الدفاع أنقذ فرنسا ذات لقاء فاصل مع بلجيكيا، كانت الكرة في طريقها إلى الشباك، ستحزن فرنسا لو لم يكن هو الشخص المناسب في الموقف المناسب، يرجع الكرة من الخط الفاصل، تترشح فرنسا لنهائيات كأس العالم صيف 1958 في السويد. هو نفسه كان مطلوبا وبشدّة في ريال مدريد منتقلا من موناكو، سنتياغو برنابيو نفسه حدّثه في الأمر ذات لقاء ودّي بين فرنسا وإسبانيا.
مصطفى زيتزني كان لا عبا محترفا بكل مقاييس الاحتراف، ينتظره نجاح كروي لا مثيل له. يترك الجاه والمال وينذر قدميه وقلبه للثورة الجزائرية. الثورة نفسها التي كان هؤلاء اللاعبون يدفعون لها أقساطا من أجورهم.
رشيد مخلوفي، الأيقونة الصاعدة. لاعب سانت إيتيان. فاز مع فرنسا بكأس العام للعسكريين سنة 1957. تحت العلم الفرنسي كان حين قام بفعلته وغادر نحو تونس. عندما وقع إبلاغ رشيد مخلوفي بمغادرة فرنسا من أجل الجزائر، تنادت له وهو إبن التاسعة أحداث سطيف المأساوية في ماي 1945. شاهد المأساة الاستعمارية ففعلت فيه كما يفعل الجلاد في ضحيته، حمل قلبه وقدميه نحو المعنى. وهو في الطريق نحو الحدود السويسرية أوقفه عون الجمارك، لم يكن هذا الأخير على علم بما حدث، أمضى الوقت المخصص للتثبت من الهويات يداعب مخلوفي ويحدثه عن حظوظ المنتخب الفرنسي في كأس العالم. لم يجد مخلوفي ومرافقاه مختار عريبي و عبد الحميد كرمالي سوى الشوكولاتة دافعا لمغادرتهم الحدود الفرنسية. الإعلام الفرنسي يتحدث عن الهروب وعون الجمارك يبحث جاهدا عن أوتوغراف ممضى من أشهر لاعبي تلك المرحلة. هناك في الثورات لحظات فارقة عصية عن المنطق، الثورة تصنعها الصدف أيضا.
رشيد مخلوفي نفسه يعود إلى سانت إيتيان بعد استقلال الجزائر، الصدف ذاتها تجعله في مواجهة شارل ديقول حين سلّمه الكأس التي أحرز عليها و هو قائد للفريق. هذه المرّة لن يطلب شارل ديقول أوتوغرافا كما فعل عون الجمارك بل سيقول له مصافحا:
La France, c'est vous !!
كانت معاناة المغادرة كبيرة و لكن الإصرار كان أكبر. هناك من ترك نصف عائلته في فرنسا و ذهب. ثمة من كانت زوجته فرنسية فكيف الإقناع ؟ هناك من ترك نجاحا باهرا في اللعبة و في المسار وخيّر الثورة. رحلة نحو المجهول ولكنها رحلة مفعمة بالتحدّي، كيف يمكن ترك كل هذا الترف؟ لقد كان الهدف أجمل و أبهى من هدف في شباك حارس المرمى. كان الفوز بالاستقلال أبلغ معنى من الفوز ببطولة.
الرئيس الحبيب بورقيبة لم يكن فقط من المستقبلين لفريق جبهة التحرير، كان يحضر اللقاءات الكروية و في إحداها تنبّه إلى أن العلم الجزائري لم يكن مرفوعا كما تقتضي الطقوس. كان الخوف على أشدّه من عقاب الفيفا لتونس حين يرفع العلم الجزائري. أوقف بورقيبة المباراة، متحديا شروط الفيفا، أمر برفع العلم الجزائري مجدّدا، عزف نشيد قسما على إيقاع دموع لا تكفّ. هناك أشياء لا يأتيها إلاّ الزعماء من طينته.
يتنقل فريق جبهة التحرير بين أصقاع الدنيا. الأقدام تداعب الكرة والأفواه تتحدث عن الثورة، ربّما العكس أبلغ. جواز السفر كان تونسيا. فريق بحجم وزارة خارجية أو أكبر. يستقبلهم زعماء العالم أينما حلّوا، هوشي منه، جمال عبد الناصر وغيرهم، يديرون رقاب المعجبين بالحدث والذين يرون في كرة القدم ثورة الجياع وثورة المظلومين..
حدث فريد يقول عنه رشيد مخلوفي « طيلة أربع سنوات، كنت لاعب كرة قدم، يلعب مباريات سهلة جدا، كان المدربون غير صارمين. فقدت مذاق بذل الجهود، وبالمقابل، تعلمت كثيرا من متابعتي للآخرين، من مشاهدتي للمجريين مثلا في اختراعات خلاقة و جديدة دائما، في الصين وفي فيتنام، تعلمت الفرحة والبساطة في اللعب، أشياء نميل عادة لتجاهلها».
لا يهمّ كم ربح فريق جبهة التحرير الوطني الجزائرية من مباريات وهي كثيرة. لا يهمّ الأداء و الخطط الكروية التي استعملت، ما يهمّ أكثر هو أن الثورة الجزائرية قد ربحت من هذا الفريق ما يعادل عشر سنوات من النضال كما قال الزعيم فرحات عبّاس.
لم يدر في خلد لاعبي الثورة و هدافيها أن تجربتهم ستكون موضوعا للكتابة السينمائية و أيضا للدراسات التاريخية و السياسية، حتى Un maillot pour l'Algérie, L'indépendance par le football القصص المصورة لم تسلم من غواية الحدث.
«هدافو الاستقلال» أحد الأفلام الوثائقية الممتعة حول التجربة،
كتاب لذيذ يؤرخ لأدق تفاصيل الحدث، والقائمة لا تنتهي..Dribbleurs de l'indépendance
Le onze de l'indépendance من اللائق ذكر أسماء التشكيلة المثالية لفريق جبهة التحرير الوطني أو كما كانوا يسمون ب
عبد الرحمان بوبكر، دحمان دفنون، مصطفي زيتوني، محمد سوكان، مختار عريبي، عمار رواي، عبد الحميد كرمالي، رشيد مخلوفي، سعيد براهيمي، عبد العزيز بن تيفور، عبد الحميد بوشوك.. وآخرون لا يقلون براعة عن هؤلاء..
تنتهي الملحمة مع حصول الجزائر على الاستقلال سنة 1962 ويذهب كلّ في حال سبيله مدركا دون تردّد أن ركلة لكرة القدم لا تقل ثورية عن ضغطة على زناد...
ما أبهى الثورة.... ما أبهى كرة القدم...
سحر الثورة، سحر كرة القدم فريق جبهة التحرير في ذكراه الثالثة والستّين
- بقلم محمد جويلي
- 09:21 13/04/2021
- 1165 عدد المشاهدات
الثورة ثورات، ثورة البنادق وثورة الحناجر، والحجر، وثورة القرنفل، والبرتقال. ولكن ما حدث منذ ثلاثة وستّون عاما