وإمضاء الاتفاقات مع المنظمات الاجتماعية والتي وضعت في أولى اهتماماتها ضرورة التسريع في القيام بالإصلاحات الاقتصادية والتي لم تتمكن الحكومات السابقة من إنجازها .كما أصبحت هذه المسألة سمة أساسية في الخطاب الرسمي.
ويمكن أن نفهم هذا الاهتمام الجديد والمفاجئ بالإصلاحات الاقتصادية في السياسات الحكومية في الآونة الأخيرة لسببين أساسيين .الأول هو تفاقم الأزمة الاقتصادية - وخاصة المالية - للدولة في الأسابيع الأخيرة. وقد دفع هذا الانخرام الكبير للتوازنات الكبيرة المسؤولين إلى الخروج من حالة الإنكار التي كان فيها الخطاب الرسمي والإقرار بخطورة الوضع الاقتصادي والمالية بصفة خاصة .وقد صاحب هذا الإقرار بدقة الوضع قناعة بعدم قدرة الحكومة على انتهاج نفس الوصفة ونفس السياسات التي اتبعتها في نهاية سنة 2020 لاعتمادها من أجل غلق ميزانية الدولة بالرجوع الى التمويل المباشر للبنك المركزي .
السبب الثاني والذي دفع بمسألة الإصلاحات الاقتصادية إلى صدارة الأحداث شروط الدعم المالي التي وضعها المؤسسات الدولية وبصفة خاصة صندوق النقد الدولي لإمضاء اتفاق جديد مع بلادنا .وقد أكد الصندوق والمؤسسات المالية العالمية الأخرى كالبنك الدولي خلال زياراتهم الأخيرة ولقاءاتهم مع أهم المسؤولين في بلادنا كما في بياناتهم الرسمية على أن إمضاء أي اتفاق تعاون جديد مع بلادنا يتطلب التسريع في القيام بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية والتي تأخرنا في إنجازها طوال السنوات الأخيرة .ويعتبر دعم هذه المؤسسات الدولية الجهات المانحة الدولية شرطا أساسيا للتقليص من حدّة أزمة المالية العمومية .وهذا التمشي جعل من أجندا الإصلاح الاقتصادي ضرورة ملحّة .
وقد خلقت هذه الحاجيات والتحديات تأكيدا على ضرورة التسريع بالإصلاحات الاقتصادية ووضعها ضمن أولى أولويات الحكومة في الأيام القليلة القادمة .فتوالت الاجتماعات والإعلانات التي تؤكد جازمة ضرورة الالتزام بها وتحقيقها في أقرب وقت .
والخوف كل الخوف هو أن يخلق هذا الجو العام وهذه التحديات نوعا من الهرولة التي لن تساهم في ضبط برنامج واقعي وواضح المعالم قادر على النهوض بالوضع الاقتصادي وتحسينه .فأي برنامج إصلاحي يتطلب وضوحا وبوصلة قادرة على إنارة مساره وإعطائه الرؤيا والوضوح الضروريين لإنجازه وتحقيقه .
وسنحاول في هذا المقال صياغة بعض الملاحظات من أجل إعطاء المسار الإصلاحي الضروري والعاجل والشروط الأساسية لنجاحه .
وفي رأيي فإن نجاح أي مشروع إصلاحي يتطلب توفر أربعة شروط أساسية وهي : الرؤيا والتصور والحلول والمشاركة .
• الرؤيا والأولويات:
قبل الانطلاق في أي برنامج إصلاحي لابد للحكومات أن تقوم بقراءة جلية ودقيقة لتحديات الواقع التي هي بصدده.وهذه القراءة تمكن الحكومة من ضبط الرؤيا التي ستقودها في المشروع الإصلاحي وتساعدها على ضبط الأولويات لسياساتها الاقتصادية.فعملية الإصلاح والمشروع الإصلاحي بصفة عامة ليسا بعملية تقنية تقف على تحديد وصفة أو جملة من الإجراء .
فلو أخذنا وضعية بلادنا اليوم على سبيل المثال تبدو الأزمة الاقتصادية خانقة متشعبة وخانقة .وتأخذ هذه الأزمة عديد المظاهر المختلفة والتي تتطلب سياسات وحلولا قد لا تكون في بعض الأحيان متناقضة .ونشير في هذا المجال إلى التراجع الكبير للنمو في السنة المنقضية وصلت بلادنا إلى مستوى من الانكماش لم تعرف مثله منذ الاستقلال .وفي نفس الوقت عرفت المالية العمومية أزمة خانقة دفعت الدولة إلى المزيد من التداين الداخلي والخارجي والذي أصبح يشكل عبئا غير مسبوق على المالية العمومية .
والى جانب هذه التحديات الاقتصادية لابد لنا كذلك من الوقوف على الانعكاسات الصحية والاقتصادية والاجتماعية للجائحة .فقد وضعت هذه الجائحة نظامنا الصحي على المحك مما سيتطلب اعتمادات هامة لدعمه وإعادة بنائه .كما عرفت مؤسسات الاقتصادية تراجعا كبيرا وتدهورا خطيرا لأوضاعها المالية مما أوصل الكثير منها إلى حالة الإفلاس .ويمكن كذلك أن نشير إلى الانعكاسات الخطيرة للجائحة على المستوى الاجتماعي إلى تردي الوضع الاجتماعي وتزايد التهميش.
إن قراءة جملة هذه التحديات بطريقة متأنية ودقيقة تدفع إلى رؤيا ومن ثمة بعض الأولويات الإستراتيجية لعملية الإصلاح.وتشكل هذه الرؤيا الإطار العام للنقاش وتحدد محتواه وحدوده وبالتالي تتفادى كل خروج عما تعتبره مؤسسات الدولة بعيدا عن أولوياتها .ثم إن صياغة هذه الرؤيا أساسية باعتبارها تضمن للدولة الوطنية المحافظة على مصالحها وعلى سيادة قرارها في ظل الضغوطات الخارجية وخاصة الشروط التي تضعها المؤسسات الدولية .
والرؤيا لابد لها أن تنطلق من تصور استراتيجي على مدى طويل .ولكن في غياب هذا المشروع لابد لبلادنا أن تطرح رؤيا على مدى متوسط ولثلاث سنوات على الأقل لكيفية الخروج من هذه الأزمات وتحدد الأولويات التي يجب ضبطها .
وفي رأيي فإن الرؤيا والمشروع الكبير الذي يجب أن يجمع التونسيين في السنوات القادمة يهم تعافي المجتمع والاقتصاد من الجائحة ومن انعكاساتها الخطيرة على بلادنا .وعلى مؤسسات الدولة الاستشرافية وترجمة هذا المشروع إلى أولويات سياسية واقتصادية واجتماعية تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المرحلة التاريخية التي نعيشها والتحولات الكبرى التي تعرفها بلادنا منذ انطلاق الثورات العربية .
وفي ظل غياب هذه الرؤيا يتحول التسريع في الإصلاحات إلى هرولة فاقدة للبوصلة وغير قادرة على فتح آفاق للخلاص الجماعي لبلادنا.
• التصور والمنهج:
إن الرؤيا والمشروع الجمعي للإصلاح ضروري وأساسي للنجاح إلا أنه يبقى نظريا وغير ذي قيمة إذا لم تتم ترجمته إلى تصور عملي واضح المعالم يعطي للسياسات العمومية إطارها الفلسفي وتوجهاتها الكبرى .
وتتعدد التصورات والمناهج في مجال السياسات العمومية في الكثير من البلدان وفي التجارب التاريخية المقارنة .فيمكن أن نشير إلى التوجهات المحافظة في السياسات والتي تسعى في خضم الأزمات إلى الخروج بأخف الأضرار والمحافظة على التوازنات الكبرى وتفادي المخاطر .ويمكن من جهة أخرى أن نشير إلى التصورات الطموحة والنشيطة والتي تعمل على جعل الأزمات نقطة انطلاق لمشروع جديد وتجربة سياسية جديدة .فالخلاص في هذه الرؤيا لا يتم بالمحافظة على القديم وحمايته بل بالانطلاق في بناء تجربة جديدة على أنقاضه .
وتحديد التصورات وبنائها يرتكز على جانبين مهمين .الجانب الأول موضوعي ويهم حجم التحديات والضغوطات التي تواجها بلادنا والتي قد تدفع بالدولة إلى السير في اتجاه غير الذي اقتنعت به .أما الجانب الثاني فهو ذاتي ومرتبط بالقناعات الفكرية والسياسية لمسؤولي الدولة .فالأحزاب والفاعلون السياسيون ذوو التوجه المحافظ سيسعون إلى تحديد سياسة محافظة وعدم التوجه إلى ما يعتبرونه مغامرة وتوجهات غير محمودة العواقب .أما الأحزاب والمسوؤلون ذووا التوجه التقدمي إلى سيسعون قدر الإمكان الابتعاد عن التصور المحافظ والانخراط في تصورات طموحة وذات بعد مستقبلي .
وستكون هذه التصورات نقطة انطلاق السياسات الكبرى للحكومات والدول .والتصور المحافظ يقود في أغلب الأحيان إلى سياسات تقشفية للمحافظة على التوازنات الكبرى وحماية المجموعة في ظل الرياح العاتية .أما التصورات الطموحة فإنها تسعى إلى ضبط سياسات توسعية ونشيطة لمواجهة الأمواج الصاخبة ويقود التصور إلى تحديد جملة من الحلول .
• الحلول والدراسات التقنية:
إن تحديد الرؤيا والتصورات الكبرى هي في جانب كبير منها مسائل سياسية واستراتيجية تقود إلى الجانب التقني الذي يهم الحلول العملية لتجاوز التحديات ورفعها .
وتقوم مؤسسات الدولة وخبراؤها وحتى مراكز البحث الجامعية ومؤسسات الدراسة بضبط بعض الحلول لأغلب التحديات .و تسعى في بعض الأحيان إلى ضبط اختيارات متعددة ومختلفة لجانب واحد أو أزمة واحدة .
ولا تقف هذه المؤسسات عند ضبط الحلول التقنية بل تسعى كذلك الى القيام بالدراسات لضبط وتحديد انعكاساتها بكل دقة على جميع المستويات وهذه الدراسات ضرورية لإنارة الرأي لصاحب القرار السياسي حول أسلم السياسات لمواجهة المصاعب .
ويقود هذا العمل الإعدادي الضروري الى ضبط الرؤى والتصورات والحلول إلى مرحلة أساسية وهي مرحلة المشاورات والمفاوضات .
• المشاورات والمفاوضات:
إن المشاورات والمفاوضات مرحلة أساسية وضرورية لنجاح كل مشروع إصلاحي.ولضمان نجاح هذه المرحلة المهمة لابد من إعداد مسالتين مهمتين .وتهم الأولى جملة الدراسات والتصورات التي ضبطتها الحكومة لجملة التحديات التي تواجهها البلاد.وهنا نعتقد انه يخطئ من يفكر في أن التصورات والحلول وليدة النقاش والتشاور.وعلى العكس من ذلك اعتقادا راسخا أن الدخول إلى التشاور والتفاوض بدون تصورات واضحة قد يقود إلى فشل الحوار وعجزه عن الخروج بتصورات وحلول واضحة
أما الشرط الثاني لنجاح هذه المفاوضات والحوارات فهو منهجي ويهم طرق تنظميها ومشاركة الفاعلين فيها .ولابد لهذه المنهجية أن تكون سلسل وفي نفس الوقت على قدر كبير من التنظيم وحسن الإدارة لضمان الخروج بنتائج واضحة وعملية .
إن الدخول في مسار الإصلاح الاقتصادي قرار هام وضروري نظرا للأزمة الكبيرة والتحديات التي تعيشها بلادنا .إلا أن المشروع الإصلاحي يتطلب شروطا أساسية من تحديد للرؤى والتصورات والحلول وطرق الحوار والنقاش .وقد يتحول التسريع في الإصلاح إلى هرولة فاقدة للبوصلة في صورة غياب هذه الشروط .
في مخاطر الهرولة نحو الإصلاح
- بقلم حكيم بن حمودة
- 11:37 12/04/2021
- 1171 عدد المشاهدات
بعد أشهر من العمل ظهرت إلى السطح مسألة الإصلاحات الاقتصادية لتصبح أحد أهم أولويات الحكومة .فتتابعت الاجتماعات والإعلانات