بالفيروس إلى أرقام مفزعة بعد أن كان قد تراجع بصفة كبيرة منذ بداية شهر مارس 2021.كما شهدت المستشفيات كذلك ارتفاع عدد الوافدين في حالات خطرة مما شكل ضغطا كبيرا على القطاع الخاص .ويرجح الكثيرون هذا النمو إلى دخول السلالات المتحورة وبصفة خاصة السلالة البريطانية في كثير من المناطق .
ويشير الخطاب الرسمي في وسائل الإعلام إلى أن هذا الانفلات في الجائحة نتيجة طبيعية لعدم احترام المواطنين للبروتوكولات الصحية واستهتارهم في الالتزام بإجراءات السلامة والحماية .
وعلى أهمية هذه المسألة وضرورة التزام المواطنين بهذه الإجراءات فإننا نود التأكيد في هذا المقال على مسألة السياسات العمومية وعدم قدرتها على مجابهة هذه الجائحة .فإلى جانب الحس المواطني وتعبئة المواطنين فإن المسؤولية الأولى في المسائل الوطنية الكبرى والتي تمس الأمن القومي هي مسؤولية الدولة ومدى قدرتها على صياغة السياسات العمومية القادرة على مجابهة التحديات وحماية المجتمع والمواطنين .
إن قراءة الواقع الوبائي اليوم في بلادنا تبرز إلى حد كبير الفشل والعجز اللذين وصلت إليهما السياسات العمومية في التصدي لهذه الأزمة الصحية الكبيرة.وهذا العجز يبرز في قراءة مقارنة بين أغلب البلدان العربية والتي تشير إلى أن نتائجنا كانت دون المأمول مقارنة حتى مع الدول التي لا تفوقنا في الإمكانيات المالية وفي مستوى نمو قطاعها الصحي.
وقبل المرور إلى قراءة الأرقام وفهمها نريد الإشارة إلى امتنانا الكبير للقطاع الصحي وكل إطاراته الذين صمدوا أمام هذا الفيروس وهذه الجائحة الخطيرة في ظروف صعبة .ما نريد التأكيد عليه في هذا المجال يهم المسائل الهيكلية أي السياسات العمومية لفهم أسباب عجزها من أجل تجاوز الفشل .هذه القراءة النقدية هدفها الوحيد فهم مواطن الخلل في السياسات العمومية وطرق تحسينها وتغييرها نحو الأفضل من اجل حماية المجتمع أمام الجوائح الكبرى والتي يبدو أنها ستكون أحد أهم خصائص المستقبل .
• قراءة مقارنة مع البلدان العربية
قمنا بتجميع أهم أرقام الحالة الوبائية في أغلب البلدان العربية لفهم تطور الجائحة وقدرة السياسات العمومية على مجابهتها وحماية المواطنين.نعلم أن الأرقام الرسمية في بعض الدول العربية كما أشارت إلى ذلك منظمة الصحة العالمية ليست دقيقة بما فيه الكفاية لتسمح بمقارنة شاملة لكل البلدان العربية .وسنقتصر في هذه القراءة المقارنة على الدول التي تتميز إحصائياتها بالدقة الكافية.
والملاحظة الأولى والاهم التي تبرز من هذا الجدول الذي جمعته أن الوضع الوبائي في بلادنا من خلال المعطيات التي جمعناها والنسب التي قمنا باحتسابها هو ثاني أسوأ وضع بعد لبنان.(انظر الجدول).
وهذه النتيجة تدفعنا إلى طرح الأسئلة الحارقة حول الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه النتائج المفزعة .
ولقراءة الوضع الوبائي في البلدان العربية قمنا بتقسيم هذه البلدان إلى ثلاث مجموعات كبرى حسب المؤشرات الواردة في الجدول .
البلدان الموبوءة
وتضم هذه المجموعة لبنان وتونس والأردن والعراق إلى جانب فلسطين وليبيا .وتشترك هذه البلدان في كونها تعرف حالات وبائية حرجة من خلال الوفيات ،وعدد إجمالي الحالات في المليون ساكن،وعدد الوفيات في المليون ساكن وغيرها من المعطيات والإحصائيات الوبائية .
والى جانب الوضع الوبائي فإن الرابط الجامع بين اغلب هذه البلدان الأزمات السياسية التي تتخبط فيها منذ سنوات .وبالتالي كان لهذه الأزمات السياسية وعدم الاستقرار السياسي انعكاس على الوضع الوبائي وعلى قدرة هذه الدول على ضبط السياسات الطموحة والقوية من أجل الحد من انعكاسات الجائحة.
والملاحظة الثانية التي يمكن أن نسوقها أن حدة الأزمة الوبائية كانت لها اكبر الانعكاسات على المستوى الاقتصادي حيث أن هذه البلدان سجلت الأرقام الأسوأ في مجال الانكماش الاقتصادي .
الدول المتوسطة
وحسب الأرقام التي جمعناها وحسب عديد الإحصائيات فإن هذه المجموعة تضم الكويت والبحرين والمغرب والمملكة العربية السعودية والتي ولئن عرفت نموا كبيرا للجائحة فإنها كانت قادرة على السيطرة على تطورها وخاصة على انعكاساتها الخطيرة وخاصة على نسب الوفيات.
ولعل ما يجمع بين هذه البلدان الاستقرار السياسي والذي مكنها من ضبط السياسات العمومية الضرورية لمجابهة الجائحة.كما أن هذه البلدان انطلقت في عمليات التلاقيح منذ فترة طويلة وعلى مستويات واسعة مما مكنها من تحقيق مستوى معين من المناعة الجماعية.
والملاحظة الأخرى التي يمكن أن نسوقها عن هذه البلدان أن تقدمها في السيطرة على الجائحة مكنها من التخفيض من انعكاساتها الاقتصادية حيث ستكون نسب الانكماش الاقتصادي اقل بكثير من نسب المجموعة الأولى.
الدول الناجحة
والنجاح في محاربة الجائحة نسبي باعتبار صعوبة التنبؤ بمستقبلها وسياقات تطورها.وتضم هذه المجموعة بعض البلدان مثل دولة الإمارات وقطر والجزائر والتي عرفت النسب الوبائية الأقل في كل البلدان العربية (انظر الجدول).
ويمكن لنا أن نلاحظ أربعة قواسم مشتركة بين اغلب هذه المجموعة.القاسم الأول هو الاستقرار السياسي وقوة أجهزة الدولة في الجزائر .القاسم المشترك الثاني هو انطلاق اغلب هذه البلدان في عملية التلقيح بطريقة مبكرة وعلى نطاق واسع .القاسم المشترك الثالث هو عدد السكان المحدود ما عدا الجزائر مما مكن عملية التلقيح من تغطية عدد كبير منهم في وقت قصير وبالتالي الحصول عل المناعة الجماعية بسرعة .أما القاسم المشترك الرابع فيخص الإمكانيات المالية الضخمة التي تتمتع بها هذه الدول مما مكنها من الحصول عل التلاقيح بسرعة كلفها ذلك ما كلفها .
وقد كان لهذا التعاطي السريع مع الجائحة انعكاس اقتصادي حيث أن حدة الانكماش كانت اقل فيها من البلدان الأخرى .
هذه القراءة والمقارنة للوضع الوبائي مكنتنا من تحديد الاختلافات بين البلدان العربية وخاصة بعض العناصر الأساسية في نجاح السياسات العمومية في التعاطي مع الجائحة والتقليص من حدة انعكاساتها الصحية والاقتصادية .ومن أهم هذه العناصر، الاستقرار السياسي وصلابة مؤسسات الدولة مما مكن هذه الدول من ضبط سياسات قوية وناجعة .
العنصر الثاني في نجاح هذه السياسات : السرعة في الانطلاق في عمليات التلقيح وتعميمها على نطاق واسع .
العنصر الثالث يهم الكثافة السكانية والتي مكنت الدول الأقل عددا من التعاطي مع التلقيح بطريقة أسرع .أما العنصر الرابع فيهم الإمكانيات المالية والتي مكنت الدول الغنية خوض المنافسة في السوق العالمية للتلاقيح في ظروف مريحة .
والنتيجة الهامة والتي تهم بلادنا تخص النتائج الضعيفة في بلادنا للسياسات العمومية في مجابهة الكورونا .وتطرح هذه النتيجة تساؤلات كبيرة حول اسباب هذا العجز .
في أسباب إخفاقات السياسات العمومية لمجابهة الجائحة
إن القراءة المتأنية والهادئة لأسباب اخفاقات السياسات العمومية في مواجهة الجائحة ضرورية لتحديد مكامن الخلل وإمكانات التجاوز من أجل الخروج من هذه الجائحة .
وفي رأيي فإن مكامن العجز والخلل تكمن في أربع مسائل أساسية .
1 ) غياب القيادة السياسة للازمة
إن الجائحة التي نعيشها ومستوى التحدي الذي وضعته على مجتمعاتنا والتهديد المفزع الذي وضعته على الإنسانية تتجاوز مجال الأزمة الصحية لتصبح تهديدا للأمن العالمي ومسألة سياسية بامتياز .وقد تعاملت اغلب بلدان العالم مع هذه المسألة بهذه الأهمية والمسؤولية لتصبح القضية الأوكد لأعلى هرم السلطة السياسية .
وقد تحملت السلطات السياسية وأجهزة الدولة في أعلى مستوياتها مسؤولية إدارة هذه الأزمة وضبط الاستراتيجيات والسياسات العمومية من اجل مجابهتها وقد ظهرت أعلى مراكز السلطة وبصفة خاصة رؤساء الدول ورؤساء الحكومات في الصف الأول من اجل مجابهة هذا العدو .
وكانت للسلط السياسية أدوار عديدة ساهمت في تحسيس المواطنين وتعبئتهم من اجل محاربة هذه الجائحة وإيقاف تفشيها .فكان الدور البيداغوجي من اجل توعية الناس بمخاطرها .ثم كان الدور الإعلامي لدفع المواطنين إلى احترام الإجراءات الوقائية .ثم جاء الدور السياسي من خلال ضبط السياسات وتقديمها للناس لتأكيد دور الدولة الأساسي في محاربة الجائحة .ثم لا ننسى دور الإحاطة الذي لعبته السلط من أجل الوقوف إلى جانب الفئات الهشة على المستوى الاجتماعي وتشجيع فئات واسعة من أجل الصبر والثبات على احترام الإجراءات .
وقد ساهمت الإطلالات الدورية لأعلى هرم السلطة في كل بلدان العالم في مختلف وسائل الإعلام في هذا الجهد الوطني والعالمي .
إلا أن الوضع اختلف تماما في بلادنا .فقد غابت السلط السياسة في محاربة الجائحة بطريقة مباشرة .
فلم نشهد في بلادنا ما رأيناه في البلدان الأخرى من الخروج الدوري لأعلى هرم السلطة لإعلام المواطنين وتفسير الإجراءات المتخذة وشحذ همهم من اجل الصمود.وبقي هذا الدور على عاتق المسؤولين الإداريين - والذين رغم أهمية العمل الذي قاموا به في هذا المجال - لم يرتق عملهم إلى المجال السياسي وإلى الأهمية الرمزية التي تقتضيها هذه الأزمة .
وفي رأيي فإن غياب هذا الدور السياسي المركزي كان له تأثير سلبي في عدم تعبئة الناس لتحمل مسؤولياتهم في مواجهة الجائحة .
2 ) فشل الرؤيا الاستشرافية لمؤسسات الدولة
لا تتوقف مواطن الخلل في السياسات العمومية في مستوى غياب القيادة السياسية بل تهم كذلك الفشل الذريع لمؤسسات الدولة وعدم قدرتها على بناء رؤيا استشرافية لمستقبل التحديات في موضوع الحال الجائحة .والعملية الاستشرافية ليست مسألة تقنية فقط بل هي مسألة سياسية بامتياز .فالسلطة السياسية تلعب دورا مركزيا في دفع الاستشراف من خلال دعم البحث والتفكير ثم الأخذ بنتائجه واعتمادها في ضبط السياسات .
وتثبت متابعة تطور الجائحة وقراءة بعض القرارات أن القرار السياسي لم يدعم استقلالية القرار التقني فقط بل لم يلتزم بتوصياته .
وللتأكيد على ها العجز الاستشرافي يمكن أن نشير إلى مثالين هامين .الأول يعود إلى شهر جوان 2020 فعند انتهاء الموجة الأولى وتراجع الفيروس .ففي هذه الفترة انطلقت اغلب بلدان العالم في الإعداد للموجة الثانية وبدأت في صنع أو شراء التلاقيح .وفي نفس الوقت كان اكبر مسؤولي الدولة في بلادنا منتشين بالانتصار المبين الذي حققناه على الجائحة والذي أصبح كالعادة «محل انبهار العالم» .وهكذا وعندما كانت أغلب بلدان العالم مستعدة لمجابهة الموجة الثانية في بداية اكتوبر كنا في بلادنا نعيش على وقع انتصاراتنا الوهمية.
المثال الثاني الذي تمكن الإشارة إليه في مجال عجز مؤسسات الدولة في الاستشراف يهم القرارات الأخيرة للجنة العلمية لمجابهة الكورونا والمنعقدة في 3 مارس 2021.ففي بداية هذا الشهر بدأت أغلب بلدان العالم في الإعداد لمواجهة الموجة الثالثة وتدعيم الإجراءات الوقائية .إلا أن مؤسساتنا كانت تعيش عل نشوة التراجع النسبي للوباء الذي شهدناه في بداية مارس .
وبالرغم من ظهور السلالات المتحورة للوباء وبصفة خاصة السلالة البريطانية لم تر مؤسساتنا مانعا في التخفيض من حدة الإجراءات الوقائية في قراراتها مما نتج عنه هذا الانفلات والعودة المرعبة للفيروس .
3 ) عجز مؤسسات الدولة ووهنها
المسألة الثالثة التي ساهمت في إخفاقات السياسات العمومية في محاربة الجائحة تخص في رأيي عجز وضعف مؤسسات الدولة وضعفها.
فمنذ بداية الجائحة لم تتمكن أجهزة الدولة من تطبيق الإجراءات الوقاية بالحزم الكافي للتخفيض من سرعة تفشي الفيروس عند المواطنين .وقد شكل هذا الضعف هاجسا أساسيا وأحد معوقات السياسات العمومية في هذا المجال .فبقي احترام هذه الإجراءات محدودا وفتح المجال بالتالي للتجاوزات وفي بعض الأحيان للاستهتار الكبير لبعض الفئات .فبقي احترام إجراءات التباعد ووضع الكمامة محدودا .كما أن تطبيق إجراءات منع التنقل بين المدن لم يحترم .
ولعل الأخطر في هذا المجال قيام بعض الأحزاب السياسية بتظاهرات واجتماعات ضخمة في تحد صارخ لجملة الإجراءات الوقائية التي وضعتها الدولة .وبالرغم من المخالفة الواضحة لهذه الإجراءات فإن أجهزة الدولة لم تكن قادرة على منعها وإيقافها .
وقد دفعت هذه الأنشطة السياسية العديد من القطاعات الأخرى والتي استجابت للإجراءات إلى المطالبة برفعها والدعوة إلى عدم احترامها نظرا لغياب العدالة في تطبيقها وعدم قدرة الدولة على فرضها .
4 ) التعاطي البيروقراطي في السياسات العمومية
إلى جانب هذه المسائل الهامة التي اشرنا إليها لفهم إخفاقات السياسات العمومية لابد من الإشارة كذلك إلى البيروقراطية المتنفذة في مراكز القرار وتاثير في التأخير الكبير الذي عرفته اختياراتنا في محاربة الجائحة في كل المجالات من شراء الكمامات إلى الموافقة على استعمال التلاقيح الى اشتراء التلاقيح اذ عرفت بلادنا تأخيرا كبيرا في اتخاذ القرارات وتنفيذها والمتابع لهذه الصيرورة في العمل الإداري يصل إلى نتيجة وهي أن مختلف أجهزة الدولة لم تتعامل بالسرعة الكافية لمجابهة هذا الوضع .فقد تعاطت مع الأوضاع الاستثنائية وغير المسبوقة التي خلفتها الجائحة بالأدوات التقليدية والعادية مما نتج عنه هذا التأخير الكبير في مجابهة الأوضاع .
تعرف بلادنا تدهورا كبيرا للوضع الوبائي الذي ينذر بالدخول في مرحلة ثالثة أكثر حدة وضراوة للفيروس .وقد عجزت سياساتنا العمومية عن مجابهة هذا الوضع والتصدي له.وهذه الأوضاع تتطلب تدخلا حاسما في أعلى مستويات السلطة من اجل الوقوف على مكامن الخلل والضعف وتغييرها في أقرب وقت ممكن وأخذ الإجراءات الاستثنائية من اجل الحد من خطورة هذه الموجة الثالثة وبصفة خاصة توسيع الإجراءات الوقائية وتطبيقها بأكثر صرامة ثم توفير التلاقيح والتسريع في لقيام بها .