هل يجب إعدام الدائنين ؟

أريد في البداية أن أطمئن كل قرائي أنني لم أنتقل مع الأزمات المتتالية وانقطاع الأمل إلى مواقف ومواقع أكثر راديكالية

وعنفا.فهذه الجملة المرعبة والمخيفة والتي اخترتها كعنوان لهذه المقالة ليست لي.وهي كذلك ليست لأحد المناضلين الثوريين والمناهضين بشدة للنظام الرأسمالي والذين يسعون إلى تقويض أسسه .
إن هذه الجملة الشهيرة والمخيفة في نفس الوقت هي لأحد أكبر المدافعين على النظام الرأسمالي وهو أحد أكبر الاقتصاديين في العالم الانقليزي جون ماينار كينز John Maynard Keynes.وتعود هذه الجملة أو الأمر إلى الحوار العام كلّما بدأ حوار المديونية وضرورة إلغائها لتخفيف حملها على الاقتصاد وعلى الاستثمار .
وقد أطلق الاقتصادي الانقليزي ومعلم جامعة كامبريدج كما يسميه الكثيرون هذه الجملة المخيفة في كتابه الأهم والذي صدر سنة 1933 تحت عنوان «Théorie générale de l’emploi de l’intérêt et de la monnaie» أو النظرية العامة للتشغيل والفائدة والعملة .
ويعتبر هذا الكتاب مرجعا وأحد أهم الكتب في تاريخ الفكر والسياسات الاقتصادية .وسيكون هذا الكتاب نقطة انطلاق للسياسات الاقتصادية المعروفة بالسياسات الكينزية والتي تتميز بتدخل كبير للدولة للخروج من الفوضى الاقتصادية التي تسبب فيها اقتصاد السوق .وأهمية هذا الكتاب وهذه السياسات تكمن في كونها هي التي ستنقذ الاقتصاد الرأسمالي من أكبر الأزمات التي اعترضته وهي أزمة 1929 والتي كادت أن تقود إلى سقوطه .
وستهمين السياسات الكينزية وتدخل الدولة والسياسيات الاقتصادية على المجال الاقتصادي في أغلب بلدان العالم إلى حدود نهاية الثمانينات ودخول العالم في الثورة النيوليبرالية ليسود السوق ويهيمن على السياسات الاقتصادية في العالم .إلا أن السياسات الاقتصادية الكينزية ستعود كلما اشتدت الأزمات وأصبحت الرياح عاتية.
ففي الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 عادت السياسات الكينزية وتدخل الدولة لحماية النظام الرأسمالي من مغامرة المضاربين في الأسواق المالية وجشعهم المنقطع النظير .
وسنعيد نفس التجربة مع جائحة كورونا حيث سنضطر إلى العودة من جديد إلى الدولة وإلى تدخلها لحماية الاقتصاد والمجتمع من انعكاساتها الخطيرة .
وككل الأزمات التي تتطلب تدخلا كبيرا للدولة والتي تضطر للتداين لتمويل أولوياتها وبرامج الإنقاذ التي تضعها فإن قضية المديونية تطرح نفسها بكل حدّة في الحوار العام وتعود الجملة الرهيبة للاقتصادي كينز في الظهور .
وبالعودة إلى هذه الجملة الشهيرة فقد ظهرت في هذا الكتاب المرجع والصادر سنة 1933 عندما أشار كينز إلى «ضرورة شنق وقتل توجه الرأسمالي للاستفادة من ندرة رأس المال والتمويل «وتتجاوز هذه الجملة الشهيرة طابعها المباشر لتصبح فكرة هامة وأساسية في المنظومة النظرية لكينز .فالمسألة الأساسية في الاقتصاد عند الاقتصادي الانقليزي هي ضرورة توفر التمويلات وبنسب فائدة ضعيفة وبكميات هامة حتى تساهم في تمويل الاستثمارات ودفع النمو .
وقد عرفت هذه الفكرة والتصور الكينزي لمسألة التمويل اهتماما كبيرا عند الاقتصاديين وأثارت جدلا كبيرا لم تخفت حدّته إلى حد ّ يومنا هذا .
وتعود هذه الفكرة في الحوار العام في صورة فسخ المديونية وإلغائها .وقد ظهرت هذه الفكرة من جديد في الحوار العام في بداية ثمانينات القرن الماضي حين طالبت منظمات المجتمع المدني بضرورة إلغاء مديونية بلدان العالم الثالث .كما رجعت هذه الفكرة بقوة إثر الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 والتي شهدت ارتفاع مديونية البلدان المتقدمة لحماية الاقتصاد العالمي .فقد طالب عديد الاقتصاديين وحتى المسؤولين بإعادة هيكلة المديونية.ويعتبر الكثيرون هذه الهيكلة هي عودة للمبدإ الذي دافع عنه كينز لأنها في نهاية الأمر إلغاء لنسبة من هذه الديون وهي بالتالي عملية تصفية الدائنين ومصالحهم .
وقد عادت هذه المسألة للنقاش العام في عديد البلدان المتقدمة وفي الآونة الأخيرة مع تنامي تدخل الدول لحماية المجتمع والاقتصاد من الانعكاسات الخطيرة لجائحة الكورونا.وقد نتج عن هذه التدخل الاستثنائي للدول ارتفاع غير مسبوق لمديونيتها .وعلى سبيل المثال فإن الدين العمومي لفرنسا لم يتجاوز %98 من الناتج القومي الخام قبل الجائحة ليصل في نهاية السنة الفارطة إلى %120 من الناتج.وتشير التوقعات إلى أنه سيتجاوز %122 من الناتج الخام .إذن كانت الجائحة والتدخل الكبير للدولة في القطاع الصحي ولحماية الاقتصاد والفئات الاجتماعية الهشة وراء ارتفاع صاروخي للدين العام .
والسؤال الذي يطرحه الأخصائيون اليوم وخبراء الاقتصاد: هو كيف ستتمكن الدول من سداد هذه الديون والإيفاء بالتزاماتها مع دائنيها؟.ومن خلال هذا السؤال الأساسي بدأ البعض ينادون بضرورة العودة لجملة كينز الشهيرة ودعوته للقضاء على الدائنين من خلال رفض تسديد الدين .
أصبحت هذه الأفكار اليوم محل جدل ونقاش كبيرين في الفضاء العام .وقد انطلق هذا الجدل اثر عريضة أمضاها أكثر من 150 رجل اقتصاد في العالم وقد تم نشرها في عديد الجرائد اليومية ومن ضمنها صحيفة le Monde لومند الفرنسية .وقد طالب هؤلاء الاقتصاديون بضرورة فسخ الدين الناتج عن الجائحة والذي سيتجاوز %24 من الناتج الخام في فرنسا في نهاية هذه السنة .
وتشير هذه العريضة إلى جملة من الأسباب التي تدفعهم إلى المطالبة بفسخ ما اتفق على تسميته «دين الكوفيد 19».والسبب الأول هو أن هذه المديونية بلغت مستويات مرتفعة جدا ولا يمكن بالتالي للدول الإيفاء بالتزاماتها وتعهداتها .ويرى هؤلاء الاقتصاديون أن هذا المستوى من المديونية سيدفع بالدولة إلى ضبط سياسات اقتصادية تقشفية ستحد وتخفض من النفقات الاجتماعية للدول وتساهم بالتالي في تعميق الأزمات الاجتماعية التي تعيشها الدول.كما يشير هؤلاء الاقتصاديون إلى أن هذه المديونية قد تدفع كذلك الدول إلى ضبط سياسات جبائية جديدة ترتكز على الترفيع في الضرائب مما سيؤثر سلبا على المواطنين وعلى المؤسسات الاقتصادية .
وقد جابه هذا الموقف العديد من التصريحات لعديد المسؤولين ومن ضمنهم رئيسة البنك المركزي الأوروبي السيدة كريستين لاغارد وعديد الاقتصاديين الأخرين والذين يرفضون هذا الموقف ويدافعون عن الموقف التقليدي والداعي إلى ضرورة إيفاء الدول بتعهداتها والتزاماتها .
ويتركز هذا الموقف على أربعة أسباب أساسية .السبب الأول أخلاقي وهو تقليدي وديني يعود إليه المدافعون عن هذا الموقف كلّما طرح في النقاش العام .فيرى هؤلاء أن الدين قبل أن يكون التزامة مالية أو اقتصادية هو التزام أخلاقي بين الدائن والمتمتع به .وكلل الالتزامات الأخلاقية فلابد للدول أن تعطي المثال في احترامها لالتزاماتها للمحافظة على مصداقية التعاملات المالية والاقتصادية في المجتمعات الديمقراطية .
المسألة الثانية التي يثيرها المدافعون على هذا الموقف تهم استقرار النظام الاقتصادي وديمومة المؤسسات المالية .فالدين العمومي يتأتى من المؤسسات المالية والبنوك الخاصة والبنوك المركزية.وعدم الإيفاء بهذه الديون سيضع هذه المؤسسات وسلامتها المالية في موضع حرج وسيهدد في نهاية التحليل استقرار النظام الاقتصادي نظرا للدور المركزي الذي تلعبه هذه المؤسسات المالية .
المسألة الثالثة مالية حيث يشير أغلب المدافعين عن هذا الموقف إلى أن نسب الفائدة التي يتم تطبيقها على الدين العمومي في أغلب البلدان ضعيفة وفي كثير من الأحيان سلبية.وضعف نسب الفائدة سيجعل خدمة الدين لا تشكل ضغطا كبيرا على الموازنات العمومية في الكثير من البلدان .
المسألة الأخيرة والتي تدفع بعض الاقتصاديين إلى رفض الموقف الداعي إلى عدم تسديد الدين هو اقتصادية وتهم الانعكاسات المباشرة لهذا القرار مما قد ينتج عنه تطور كبير للتضخم وظهور ظاهرة التضخم الاستثنائي .
أثارت مديونية الكوفيد 19 نقاشا هاما وجدلا كبيرا في الأوساط الاقتصادية والسياسة في العديد من البلدان التي عرفت نموا كبيرا للدين العمومي من جراء الجائحة .
وقد دفع النقد الذي تعرض له الموقف المنادي بإلغاء الدين إلى دعمه وتحسينه من قبل مناصريه .فقد أشار بعض الاقتصاديين إلى أن هذا المقترح يقتصر على الديون التي تحصلت عليها الدولة من قبل البنوك المركزية .
كما نادى هؤلاء في صورة رفض مقترح إلغاء الديون إلى تحويلها إلى ديون دائمة (perpétuelle) أو طويلة الأمد بنسب فائدة ضعيفة أو قريبة من الصفر لكي لا يمنع دفعها الدول من القيام بالاستثمارات الضرورية في المجالات الاجتماعية كالصحة والتعليم .
وقد أثار النمو الكبير لمديونية الدول من جراء الجائحة الكثير من النقاش والجدل في الفضاء العام .وقد عاد الكثير من المساهمين في هذا النقاش إلى الأفكار الراديكالية لأحد أباء الاقتصاد في العصر الحديث وهو الانقليزي جون كينز.
هذا النقاش والجدل حول المسائل الاقتصادية يجب أن يدفعنا إلى ضرورة الخوض في هذه الاهتمامات والانخراط في التجديد الكبير الذي يعرفه التفكير الاقتصادي من اجل الخروج من الأزمات والهزات التي نعيشها والتي قد تقودنا الى الهاوية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115