حيث تشتغل وسائل الاتصال الحديثة على اعادة كتابة المٌحدّدات الشخصية لكل فرد منا بالحبر السرى «لوادى السليكون» الشهير...
وكما يتم الاستدلال على السجّل العدلى للأشخاص عبر بصمات الابهم، فإن تفاعلنا اليومى مع صفحات المواقع الاجتماعى أو المنصات الرقمية عموما بالاعجاب او الاستنكار تترك بصمات رقمية واضحة كفيلة بفك شفرة هويتنا الحقيقية بكل أبعادها البسيطة والمركّبة...
انطلاقا من هذا النموذج العلائقى المستجدّ، تقاطعت جلّ البحوث المتخصصة فى حقل «السلوكيات الافتراضية» – أحد فروع «علم النفس الرقمى» Psychologie numérique الذى لازال فى طوره الجنينى – حول التأثير القوى التى بصدد ممارسته تكنولوجيات الاتصال على سلوكيات الأفراد وما ترتب عن ذلك من تفكيك بنيوى عميق وممنهج للنموذج الكلاسيكى للشخصية الذى يرتكز على مفهوم التنشئة الاجتماعية Socialisation واستبداله بشخصية أكثر عٌصابية névrotique موغلة فى الانطوائية Introversion والرّيبة من الآخر المختلف...
من بين أبرز المٌتغيّرات السلوكية القادمة من عالم الأزرق الفايسبوكى، على سبيل المثال لا الحصر، ان نشهد تحوّل «الأنا النرجسية» التى تعتمل بشكل طبيعى داخل ذوات كل واحد منا قبل أن تتمظهر من حين الى اخر فى شكل ايحاءات أو أقوال أو أفعال إلى «أنا مضخّمة إلى حدّ التورّم» قد تبلغ مستوى إنكار حق الاخر المتمايز والمختلف عنا فى الوجود ببعديه المادى و الرمزى...
وعلى غرار دوران الأرض حول محورها وحول الشمس فإن «الشخصية الافتراضية» تحوم باستمرار حول ذاتها لتثبت «للعالم الخارجى» المتامر عليها انها مركز الكون وكينونته الحقيقية دون منازع.. شخصية تٌجيد التخاطب مع نفسها فى شكل مونولوج مٌملّ ورتيب.. تعيش فى حالة تنافر / انسجام - حسب ما تقتضيه المصلحة - مع شخصيتها الواقعية ، تٌحدّثها دون توقف عن بطولات وهمية حققتها فى عالم «مارك زوكربيرك» المخاتل.. تنزع باستمرار إلى خلق مزيد من الأعداء فى معركة دنكوشتية ضد طواحين الهواء.. تستخدم قاموسا خاصا تٌستمدّ مفرداته و مفاتيحه اللوحية من نظرية المؤامرة .. تحاول عبثا ودون كلل أو ملل أن توهم نفسها والآخرين بأنها من جنس «المسيح المخلص» فى حين أن الاخر قادم من مملكة الابالسة والشياطين. . تٌوزّع صكوك الطهورية والعفّة يمينا وشمالا على قاعدة من «ليس معى فهو ضدى»، وإذا فرضت عليها المناورة فإنها تتحرك ضمن نطاقات محدودة جدا لشدة خوفها من فقدان مجالها الحيوى.. تعيش حالة من القلق المستمر angoisse permanent توجسا من اية محاولة استكشاف «لكوكبها الخاص» من قبل المخلوقات السفلى...
لكن لسائل ان يسأل ما علاقة هذه الشخصية الافتراضية المنطوية على نفسها بشخص رئيس الجمهورية الذى عٌرف بانه لا يمتلك حتى مجرد حساب فايسبوكى وأن عالم الرقميات يبدو بعيدا عنه كل البعد ؟
فى الحقيقة تأتى الاجابة مباشرة من داخل «علم السلوك الافتراضى» الذى يعتير بان «السلوك الرقمى» Le comportement numérique و»الرقمنة» la digitalisationمن المفاهيم المترابطة فيما بينها لكن المتمايزة عن بعضها البعض فى ذات الوقت، «فالسلوك الرقمي» بالاساس ذهنية لا تحتاج ضرورة إلى معرفة تقنية لوسائل التواصل الاجتماعى - الرقمنة - بل تستحق أكثر الى مجموعة من الاستعدادات الفطرية القبلية Prédispositions القادرة على الاستجابة بقوة مع المنظومة السلوكية الافتراضية...
فالمعجم الحربي المستخدم، وتكرار سردية الفضيلة/الرذيلة، والتشبث بانماط «حوارية» مغلقة او هلامية ملتبسة عبر اقتراح «حوار» يشارك فيه «الشباب» عبر وسائل الاتصال الحديثة، أليس فى هذا السلوك تماه شديد مع مٌحدّدات الشخصية الافتراضية ؟
ألم يكن ذلك كافيا لانجذاب مئات الآلاف من الشباب الفايسبوكى للتصويت له فى الدور الثانى بكثافة ؟
وفى الأخير الم تكن الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 تأسيسا «لجمهورية فايسبوك» مرعبة، موازية للجمهورية الأولى والثانية داخلها وخارجها مفقود؟
الشخصية الافتراضية: الرئيس أنموذجا ...
- بقلم محجوب لطفي بلهادي
- 11:52 27/03/2021
- 1193 عدد المشاهدات
تزامنا مع مطلع الألفية الجديدة استفاقت البشرية قاطبة على ولادة مجتمع مواز للمجتمع الواقعى الذى نعيش فيه يٌعرف «بالمجتمع الافتراضى»