وان تمسّك السياسيين بإجراء الحوار اللازم لتجاوز الأزمة السياسية يُمكنه ان ينتظر، فالاقتصاد أولا. فلم يعد من الضروري التأكيد على عُمق الأزمة الاقتصادية وخطورة تداعياتها الاجتماعية في تونس. بل صار الإلحاح عليها ضربا من «الصادية» التي تزيد في تعميق آلام التونسيين. ولقد تكفّل تقرير صندوق النقد الدولي الذي تم عرض نتائجه في ندوة صحفية يوم الثلاثاء الثاني من شهر مارس الجاري بالتأكيد على أهم محاور هذه الأزمة العميقة، حيث ذكّر ممثل صندوق النقد الدولي بالمخاطر التي تُحيطُ بالاقتصاد التونسي والتي قد تنسفُ من نسب النمو المتوقعة مُذكّرا بضرورة مواجهة تضخّم كتلة الأجور ونزيف صندوق الدعم الذي لا يتوجه فعليا إلى مستحقيه بل يتوجه جزء كبير منه لدعم المحروقات، وذكّر التقرير أيضا بالوضعية الصعبة التي تعيشها المؤسسات العمومية وغياب الحوكمة الرشيدة والشفافية في التعاملات المالية ناهيك على فشل منظومة الاقتصاد الريعي ووطأة البيرقراطية وبطء الإجراءات. ودعا صندوق النقد الى ضرورة إطلاق حوار وطني ومجتمعي شامل، تتم فيه كشفُ الحقائق «الصادمة» ثم يتم التوجه الى صياغة تعاقدات جديدة بين مختلف الفاعلين السياسيين والمنظمات المهنية من شأنها الانطلاق في الإصلاحات الضرورية لتنقية مناخ الاستثمار والإعمال و خلق فُرص حقيقية للإنقاذ الاقتصادي، على أن يتم بعد ذلك عرض نتائج هذا «التوافق الوطني» على الشركاء الدوليين والجهات المانحة.
وكانت وكالة التصنيف الدولية «موديز» قد أشارت في تعليلها لأسباب تخفيض ترقيمها السيادي لتونس إلى نفس الأسباب التي أشار إليها تقرير صندوق النقد، مضافا إليه توسّعا في إبراز دور الأزمة السياسية وصراع المؤسسات وغياب الاستقرار في تعميق الأزمة.
تعيش تونس إذن أزمة اقتصادية تزداد وطأتُها شدة بفعل وباء الكوفيد. وينشغل الجميع بالصراعات الجانبية والتموقع السياسي في إهمال حقيقي للمشاكل اليومية للتونسيين. إذ أن النسيج الاقتصادي في المؤسسات الصغرى مهدد بالانهيار شأنه في ذلك شأن منظومات الإنتاج الفلاحي من حليب ولحوم والخضر والغلال، وكذلك المؤسسات العمومية التي تعيش وضعيات صعبة وارتفاعا في المديونية. والمؤكد اليوم هو غياب الرؤية الاقتصادية والاجتماعية وسط تهاوُن وتراخي في مباشرة الإصلاحات الكبرى الضرورية لتحفيز الاقتصاد وإيقاف نزيفه. كما يُمكنُنا أن نلاحظ من خلال تصريحات ممثلي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تأخّرا في انطلاق جولة جديدة للتفاوض، حول التمويل فما بالك بالتفاوض حول تنفيذ البرنامج الذي يُموّله صندوق النقد الدولي وهو ما يطرح إشكالية تأمين الوصول المستمر إلى مصادر التمويل الخارجية، وصعوبة النفاذ إليها للاقتراض بشروط ميسرة من اجل تلبية متطلبات التمويل المرتفعة الضرورية في السنوات القليلة المقبلة.
و نحن وإن كُنّا نعتبرُ أن كل يوم يمرّ دون تنظيم «مؤتمر وطني للإنقاذ الاقتصادي والحوار السياسي» له تكلفته الغالية على واقع البلاد ومستقبل أبنائها، فإننا حريصون أيضا على أن يكون هذا المؤتمر ناجحا وناجعا، وان لا يكون حفلا جماعيا لالتقاط الصور. وحرصُنا على نجاحه يجعلنا ندفعُ في اتجاه أن ينطلق من ورقات منهجية تضمن النجاح لأشغاله والدقة لمُخرجاته. وفي تونس كفاءات وخبرات كثيرة قادرة على المساهمة في الإعداد الجيد لهذا المؤتمر وفي تنشيط ورشاته وصياغة تقاريره النهائية. ونحن مساهمة منا في فتح باب النقاش الجدي لهذه المسائل، وحرصا على إعادة توجيه بوصلة الصراع نحو اتجاهاته الصحيحة التي تخدم البلاد والعباد بعيدا على سياسة المُغالبة و«الحسابات الصغيرة»، نقترح في هذه الورقة «خطّة انقاذ عملية» يُمكن للحكومة الحالية الشروع في تنفيذها في انتظار توفّر الشروط اللازمة لنقاش جدي للخروج من هذه الوضعية:
• يُبادر رئيس الحكومة بمُخاطبة الشعب مباشرة بشجاعة وجرأة، ويكشف له في «خطاب الوضوح والصراحة» حقيقة الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمخاطر الكبيرة التي تُواجهها البلاد، حتى يتم إشهاد الشعب على «النخب» السياسية ويتم تحفيز طاقات التونسيين لمرحلة الانقاذ، التي قد تتطلّب بعض تضحيات.
• يقوم رئيس الحكومة بالتكليف الفوري لوزارة الاقتصاد والمالية، الاستثمار والتعاون الدولي سابقا، بتحيين وثيقة برنامج الإنقاذ الاقتصادي الذي أعدته الحكومة السابقة. ثم الإذن بعرضه على المنظمات الوطنية ومجلس النواب لمناقشته والمصادقة عليه خلال شهر (30 يوم) ثم تتعهد الحكومة باعتباره برنامج عملها وتحرص على تنفيذه خلال 12 شهر.
• يُعلنُ رئيس الحكومة على الشروع الفوري في إعداد رؤية تونس الاقتصادية والاجتماعية في أفق سنة 2030 أو 2040، حتى يطمئن الشركاء الدوليون على اعتبار ان ذلك علامة على وجود رؤيا واضحة ومستقرّة حتى وان تغيرت الحكومات مستقبلا. على أن يتمّ تكليف وزارة التخطيط والتنمية والتعاون الدولي سابقا ووزارة الاقتصاد والمالية حاليا بالإشراف على ذلك والمصادقة على هذه الرؤيا قبل موفى السنة.
• الشروع في إعداد مخطط التنمية الاقتصادي والاجتماعي 2026-2022 وتفعيل اللجان المحلية والجهوية والقطاعية المكلفة بإعداد المخططات لتحديد البرامج والمشاريع المُهيْكًلة والكبرى والقطاعية والجهوية والاستثمارات المستوجبة لتنفيذها والعمل على إدراجها في ميزانية الدولة بداية من السنة 2022.
والهدف من كل ذلك هو وضع «خطة انقاذ» عملية، من شأنها بعث رسائل إيجابية للشعب التونسي أولا وللمنظمات المهنية ورجال الأعمال ثانيا وللممولين الدوليين وشركاء تونس الاقتصاديين وللمستثمرين الأجانب ثالثا وطمأنتهم، إلى كون الدولة التونسية بمختلف مؤسساتها وهياكلها المركزية والجهوية والمحلية، وكون مؤسسات الحُكم رئاسة وحكومة وبرلمانا، وكون التونسيين بمختلف مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية الرسمية أو غير الرسمية يعملون جميعا مُوحّدين في إطار تخطيط استراتيجي لإنقاذ اقتصاد البلاد في مرحلة أولى ثم إصلاحه وتطويره والنهوض به في مرحلة ثانية، وذلك هو الشرط الرئيسي في اعتقادنا لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية على المدى المتوسط والبعيد وضمان ديمومتها.
نحن واعون بصعوبة اللحظة في تونس، ومُدركون أيضا للصعوبات التي تمنع انطلاق «المؤتمر الوطني للإنقاذ والحوار» فالسياسيون في تونس لا ينظرون في نفس الاتجاه، ولكن التونسيين الذين يُعانون منذُ عشر سنوات من عبث الساسة وانغماسهم في صراعاتهم الايديولوجية العقيمة، يعرفون جيدا في اي الاتجاهات ينظرون، إنهم يتجهون الى المستقبل. تلك هي اللغة التي يجب ان تكون سائدة في المدة القادمة، ومقدمتها الضرورية هي شروع الحكومة الفوري في خُطّة إنقاذ، دون انتظار «تفضُّل» السياسيين على تونس بالقبول بالتحاور فيما بينهم. لا يُمكن ان تبقى تونس رهينة هذه الصراعات العبثية، سجينة الماضي وأحقاده.
ويُمكن مع انطلاق الحكومة في خطة الإنقاذ الاقتصادي، إنضاج شروط «المؤتمر الوطني للإنقاذ والحوار» الذي يجب أن ينطلق في تقديرنا بتقييم شامل وجماعي لمرحلة العشر سنوات التي مرت بها تونس بعد الثورة. تقييم يجب ان ينتهي إلى صياغة تعاقدات سياسية جديدة، تفتح الباب أمام استئناف بناء المستقبل وتحقيق انتظارات التونسيين، ويُشترط ان تكون خارطة الطريق قائمة على لِزْمة متكاملة تقوم على:
• إرساء المحكمة الدستورية في آجال قريبة.
• تفعيل لجان الحوار من اجل بلورة قانون انتخابي جديد يُساهم في إيقاف التشتت البرلماني ويُنتجُ أغلبيات واضحة للحكم وللمعارضة
• مراجعة مراسيم الأحزاب والجمعيات والإعلام السمعي والبصري وتشديد الرقابة على التمويل الداخلي والخارجي، وتنظيم قطاع سبر الآراء.
• استكمال تركيز الهيئات الدستورية وخاصة مراجعة تركيبة هيئة الانتخابات وهيئة الاتصال السمعي والبصري.
• تأجيل الخوض في مراجعة النظام السياسي الى ما بعد الانتخابات التشريعية القادمة، لان ذلك مصدر رئيسي لتعطيل التحاور.
• إمضاء «ميثاق أخلاق» بين كل الفاعلين السياسيين والمهنيين والاجتماعيين يتعهد فيه الجميع بنبذ خطابات العنف والكراهية والإقصاء والعمل على خفض «التوتر» وتنقية مجالات الفعل السياسي مما يُسيء الى معاني السياسة النبيلة
• تتم الدعوة بعد ذلك الى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، فالسلطة تبقى دائما «للشعب يُمارسها عبر نوابه المنتخبين».
هذه في تقديرنا خارطة طريق عملية تشمل خطة إنقاذ اقتصادي واقعية التجسيد قائمة على «الأفكار العملية» الكبرى التي أشرنا إليها، وتشملُ في مرحلة لاحقة عقد «مؤتمر وطني للإنقاذ والحوار» يتكفل بحسم الخلافات السياسية بما من شأنه تجويد الفعل السياسي وإصلاح ما به من وهن. قد تكون هذه النقاط أقل بكثير مما يُطالبُ به البعض، ولكنها تبدو عندنا الشروط الدنيا الضرورية اللازمة لإنقاذ اقتصاد البلاد من الانهيار وإنقاذ تونس من الإفلاس وإبعاد شبح «الاحتراب» الذي أصبحت نُذُرهُ تُطلّ علينا.