أصل القضية في كيفية التعامل مع دستور يصعب التعامل معه من أصله وطبيعته، لأنه مبني على تناقض صارخ، يقدم لرئيس الجمهورية باليد لليمنى ما يرفضه له باليد اليسرى. أي كان من المطلوب من الجميع الحذر كل الحذر من اعتبار أن الدستور قاطعا مانعا في مجال الصلاحيات، وعدم التفطن إلى أن الجذب في هذا الاتجاه أو ذاك غير قادر إلا على تمزيق الوثيقة التي تربط الجميع، دون أن يؤدي ذلك إلى أي حل.
فالذي غاب عن الثلاثي هو الروح الوطنية والمسؤولية والوعي الذي يتطلب عدم التلاعب بالمفاهيم بما لا تتحمله ولا طائل من ورائه، بل المطلوب كل المطلوب التوصل المشترك للحل الجماعي.
أصل الأمر إذن في محاولات تأويل هذا الدستور المفتوح أكثر من اللزوم على التأويل، في خصوص وزن الشرعيات والصلاحيات وأيها الأقوى، البرلمانية أو الرئاسية. وفي حقيقة الأمر في هذا الباب فإن الرجوع الإعلامي الكثير لمسألة عدد الناخبين لفائدة هذا أو ذاك غير ذي معنى. الرئيس والبرلمان يتمتعان بالشرعية الانتخابية. نقطة وارجع للسطر. والخطأ الجسيم في اعتبار كل واحد من الطرفين، قيس سعيد والغنوشي، أن شرعيته أعلى من شرعية الآخر. وهو خور.
لكن قد يكون تطور الأحداث هو الذي أعطى لما كان مسكوتا عنه فرصة للظهور والبروز. والحدث المؤسس في المسألة هو «حكومة الجملي»، مع التذكير في مستوى هذه النقطة بالذات، أنه إلى حد تلك الساعة، كانت حركة النهضة في صف قيس سعيد ومناهضة لشق قلب تونس. كما أن الكتلة الديمقراطية كانت في نفس ذلك الحلف. فشل حكومة الجملي قلب كل موازين القوى وغير كل مجريات التحالف. خصوصا أنه بفعل الدستور عادت المبادرة لقيس سعيد. لكن لولا ملف إلياس الفخفاخ لسارت الأمور في اتجاه مغاير لما هي عليه اليوم. وبينما كان قيس سعيد المسؤول على اختيار الفخفاخ، فإنه اعتبر أن صعوبات البرلمان وحدة تناقضاته تصب في مصبه، مما دفع به -لا فقط- لاختيار رجل من أقرب المقربين إليه، أي المشيشي، وإنما أيضا في تمرير فكرة «حكومة تصوت عليها الأحزاب دون أن تشارك فيها»، وهي مبدئيا مسألة غريبة في قاموس السياسة، لكنها كانت أيضا وبقطع النظر عن فشل الأحزاب في إدارة الشأن الحكومي، بمثابة فرصة لتركيع الأحزاب عموما وحركة النهضة خصوصا كحزب أول.
من هنا تطورت شهية قيس سعيد، لا كما يقول هو لأن الدستور يعطيه الشرعية وإنما لأنه استغل التضارب البرلماني الداخلي لكي يحاول الانتصار مؤسساتيا، وهو ما لا يسمح له به الدستور، كما لا يسمح للبرلمان أن ينتصر عليه.
بعد كل هذه الجولات الفاسدة الذي أضرت بمصلحة الشعب التونسي وهذه العبثية الفارغة من جانب كل هذه الأطراف التي احتقرت التونسيين وتقوم على حسابهم بـ«مقابلات» ينتشون بها نفسيا لكنها تكبد البلاد خسائر فادحة سوف لن يفلت أي واحد منهم من المحاسبة في خصوصها، فإن باب تأويل الدستور في خصوص هذه الأزمة أفسد باب على الإطلاق، لأنه لا يولد إلا مفاهيم الغالب والمغلوب، بينما لا أحد في تونس يشكك لا في شرعية الرئيس ولا في شرعية البرلمان. أي أن المطلوب هو استغلال هذا الجانب الإيجابي فوق كل ما هو إيجابي، المتمثل في امتلاك التونسيين لدستور ومؤسسات منتخبة انتخابات حرة ومؤهلة للحكم ولا أحد منازع لها في ذلك. فبدل التخاصم على الحكم فإن الحل الوطني الوحيد هو تقاسمه بالوجه الأفضل، علما وأن المسألة ليست بالمرة في الحكم في حد ذاته وفيمن يمتلكه، بل في ما يمكن أن ينتج عنه من خير للناس.
وبالتحديد في قضية الحال يمكن أن يقع التفاهم مع رئيس الجمهورية على القبول بالقسم للحكومة كما هي، إلا إذا كان من هناك من هو متورط بشكل قطعي في الفساد فبطبيعة الحال أن يقع التخلي عنه فورا، على أن يتخذ القرار بإعادة النظر في تركيبة الحكومة بالتشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان كممثل للأغلبية ورئيس الحكومة بعد ستة أشهر، يتم خلالها استكمال المعلومات وتقييم الأداء قبل الانتقال إلى اتخاذ القرار في اتجاه ما هو الأفضل والأصلح لتونس، خارج عقليات التدافع والانتصار الذاتي الفارغ، بينما البلاد تعاني الأمرين وتقاسي من الحكم الرديء وتتطلع إلى الخروج من المآزق المرضية التي شوهت صورتها وزعزعت ثقتها وبثت اليأس في عقول وأرواح الكثير من شبابها.