قهوة الأحد: «بدل السيستام» في الاقتصاد

جعلت التحركات الاجتماعية الأخيرة وكذلك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية قضية تغيير المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أو «تبديل السيستام»

موضع اهتمام الرأي العام والقوى السياسية والاجتماعية والخبراء.فأصبح من الواضح أن سياسة إعادة إنتاج هذه المنظومة التي اتبعناها خلال عشرية الثورة لم تعد قادرة على فتح آفاق جديدة لتجربتنا السياسية وإعطاء الأمل الكافي للشباب .وأزمة «السيستام» أو المنظومة ليست وليدة الثورة بل تعود إلى سنوات صعود الاستبداد والتسلط في النظام السياسي ونهاية النظام التنموي وفشله .

وقد بدأت أزمات «السيستام» أو العقد الاجتماعي لدولة لاستقلال منذ نهاية تسعينات القرن الماضي.
فبعد سنوات قليلة من الانفراج السياسي الذي صاحب التغيير في رأس النظام عاد الانغلاق السياسي والتسلط إلى الظهور ويهيمن تدريجيا على النظام السياسي .

كما بدأ النظام الاقتصادي بعد عودة قصيرة للنمو في التراجع لتبلغ أزمة نمط التنمية ذروتها منذ بداية الألفية .ولم تقتصر أزمة «السيستام» على المجالين السياسي والاقتصادي بل شملت كذلك الجوانب الاجتماعية مع تصاعد البطالة وخاصة بطالة أصحاب الشهائد والذين عجز سوق الشغل عن استيعابهم ليصبحوا قوة رفض كبيرة «للسيستام».
عرف «السيستام» أزمات كبيرة منذ بداية الألفية وكانت التحركات الاجتماعية والانتفاضات مثل انتفاضة الحوض المنجمي إشارة وتعبيرة عن هذا الفشل ودعوة إلى التغيير .إلا أن العجز عن إيجاد الإجابات الضرورية وعدم القدرة آنذاك على «تبديل السيستام» كان وراء اندلاع الثورة ومحاولة تغييره من الخارج .وسيتواصل معنا مسلسل الفشل وعدم القدرة على التغيير بعد الثورة مع مختلف الحكومات التي تعاقبت على الحكم .وقد نتجت عن هذا الفشل المتواصل حالة الإحباط والخوف من المستقبل السائدة اليوم في بلادنا .

وقد طرحت التحركات الاجتماعية وحدّة الأزمات التي نعيشها اليوم ضرورة التغيير في المنهجية وفي التمشي الذي دأبنا عليه في العشريتين الأخيرتين في التعاطي مع هذه الأزمات وهي محاولة إطالة حياة «السيستام» ومحاولة إخراجه من الغيبوبة التي دخل فيها منذ سنوات .وقد أكدت هذه التحركات أن الرد الحقيقي على هذه الأزمات يكمن في الخروج من هذه المنظومة والقطع معها و«تبديل السيستام» .

ولئن قمنا بخطوات هامة في هذا المجال في الجانب السياسي فإن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لم تحض بعد بالاهتمام الكافي لضبط سياسة «لتبديل السيستام» .
وسنحاول في هذا المقال تقديم بعض الأفكار والملاحظات حول مسار «تبديل السيستام» في المجال الاقتصادي.ولكن قبل المرور إلى هذه الملاحظات لابد لنا من توضيح منهجي حول تعريف «السيستام» والمظاهر التي برز بها في السنوات الاخيرة في بلادنا .

في تعريف «اللسيستام»
إن الحديث عن «السيتسام» أو المنظومة يتطلب تحديد بعض المفاهيم الأساسية .وفي رأيي فإن «السيستام» يتكون من ثلاثة عناصر أساسية .العنصر الأول هو الرؤيا الجامعة أو التصور العام .فكل منظومة تحمل تصورا ورؤيا مستقبلية تشكل القاعدة الأساسية لها.
وهذه الرؤيا أساسية لأنها تعطي التناغم والتماسك الضروريين للمؤسسات والسياسات التي ستقوم بتحديدها .فلا يمكن «للسيستام» أن يكون متماسكا في غياب هذه الرؤيا الجمعية والمشترك بين مختلف عناصر المنظومة ومكوناتها الأساسية .
العنصر الثاني والهام هو في تكوين المنظومة أو «السيستام» هو في رأيي المؤسسات التي ستسهر على حسن سيره ودقة تنظيم عمله .والمؤسسات تهم المنظمات والأطر الإدارية وكذلك القوانين التي سيقع تحديدها وبناؤها لتنظيم وتنسيق عمل كل العناصر .
أما العنصر الثالث للمنظومة فيخص السياسات التي سيقع ضبطها وتحديدها من طرف مؤسسات الدولة من أجل إنجاز وإدخال المنظومة أو «السيستام» طور العمل والانجاز.
تشكل هذه العناصر من الرؤيا والمؤسسات والسياسات القاعدة لعمل كل منظومة وأساس ديمومتها وبقائها.ولفهم منطق كل منظومة لابد من العودة إلى مكوناته وعناصره الأساسية .

في أزمة «سيستام» التحديث
لقد عرفت تونس بعد الاستقلال منظومة أو «سيستاما» جعل من التحديث طريقنا للخروج من التخلف والتبعية .وقد حاولت دولة الاستقلال بناء هذا التصور على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فعلى المستوى الاقتصادي وبعد سنوات من التجريب لايجاد طريق التحديث من خلال ضبط تصور ليبرالي منذ الاستقلال إلى بداية الستينات ثم التجربة الاشتراكية إلى نهاية الستينات فإن الملامح الكبرى للمنظومة الاقتصادية سيقع ضبطها وتحديدها في بداية السبعينات .وسيحمل هذا «السيستام» الرؤيا التحديثية لدولة الاستقلال وستمر هذه الرؤيا الاقتصادية من خلال تحقيق ثلاث توازنات كبرى .

التوازن الأول بين القطاع الخاص والدولة من خلال فتح إمكانية الاستثمار والتشجيع عليها بالنسبة للمؤسسات الخاصة ورأس المال المحلي التوازن الثاني يهم العلاقة بين السوق الداخلية والسوق الخارجية من خلال تشجيع التصدير والتوجه نحو الأسواق العالمية.
والتوازن الثالث يهم كل القطاعات الاقتصادية وعدم إهمال قطاعات الفلاحة والسياحة بالرغم من الأهمية التي وقع إعطاؤها للقطاع الصناعي .
وقد وضعت الدولة المؤسسات الضرورية من أجل إيجاد الظروف الضرورية لانجاح هذه المنظومة .

فقد تم بعث المؤسسات الإدارية كوكالات الاستثمار الصناعي والفلاحي .كما تام كذلك بعث المؤسسات المالية وبنوك الاستثمار لدفع التنمية .وقد صاحب هذه المؤسسات الكثير من القوانين الجديدة لدفع الاستثمار والتصدير والتخفيض من القيود الإدارية .
ثم قامت الدولة بتحديد السياسات الضرورية لدعم هذه الاختيارات وبناء المنظومة الاقتصادية الجديدة.وكان للسياسات المالية والنقدية دور أساسي في تدعيم هذه المنظومة وتوفير شروط نجاحها وديمومتها .وقد نجحت هذه المنظومة في تحديث الاقتصاد والخروج به تدريجيا من واقع التبعية الذي هيمن على الاقتصاد الاستعماري .إلا أن هذه المنظومة دخلت في أزمة عميقة تعمقت منذ بداية الثورة .

وهذه الأزمة تتطلب البدء بمحاولة إعادة البناء والهيكلة من جديد من اجل إعادة الأمل في نجاح التجربة الديمقراطية .

مشروع تبديل «السيستام»
إن برنامج تبديل «السيستام» يتطلب التفكير في المجالات الثلاثة المكونة للمنظومة .وأول هذه العناصر يهم الرؤيا والمشروع الجمعي والمرحلة الجديدة لمشروع وبرنامج التحديث الاقتصادي .ويجب الخروج من الرؤيا التقليدية للتحديث وضبط برنامج جديد في هذا المجال .وهذه الرؤيا يجب أن ترتكز على مجموعة من الصناعات الذكية أو الصناعات 4.0 والتي بدأت بعض المؤسسات الخوض فيها وقد حققت عديد النجاحات في هذا المجال .
أما الجانب الثاني في هذا المجال فيهم المؤسسات الجديدة والقوانين التي يجب صياغتها من أجل دعم الرؤيا الجديدة والاختيارات الكبرى .
ويبقى الجانب الثالث والأساسي في بناء المنظومة الجديدة ويخص السياسات التي يجب تطبيقها .والتفكير وصياغة السياسات الاقتصادية والذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الثورة التي نعيشها في هذا المجال والتحديث الكبير الذي يعيشه التفكير الاقتصادي في هذا المجال .
إن التحركات الأخيرة تعبر على عمق الأزمة الاقتصادية الني نعيشها .وهذه الأزمة تتطلب بناء منظومة جديدة و«تبديل السيستام».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115